في هذا الأسبوع تمرّ علينا ذكرى أليمةٌ على قلوبنا، بل آلمت مسلمي العالم قاطبة، في مثل هذه الأيام من العام الماضي تقرّر غلق المساجد، وتعليق صلاة الجمعة والجماعة في بلدنا، في إثر وباء انتشر في العالم يفتك بالناس، ويصيب العشرات بل المئات والآلاف عبر العالم، يموت بسببه الزُمنى ومرضى الجهاز التنفسي وكبار السنّ، وحتى الأصحاء الأشداء، ولا ينجو ممّن أصابهم إلاّ من قدّر اللهُ له طول العمر، فلا الطبّ يفيد، ولا الحجر يمنع، ولا العُزلة تدفع، بل كان المصاب بقدر الله، والناجي بإرادة الله، فقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[آل عمران: 145].
ومع إحياء هذه الذاكرة الأليمة لا بدّ من مراجعة ومحاسبة لمثل هذه النازلة، وذلك للاستفادة من تجربتها ونتائجها، وتصحيح الأخطاء التي وقعنا فيها، والسّؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ماذا تعلّمنا من زمن كورونا؟
إنّ أول شيء تعلّمناه من وباء كورونا أنّ الحجر الصّحي، ومُطالبة النّاس بالانعزال والتفرّد، واجتناب الخلطة؛ إجراءٌ نافعٌ في مثل هذه الحالات، لا سيّما ممّن أصيب به، أو بأيّ مرض مُعدٍ يضرّ بالآخرين، وهذه فائدة ينبغي حفظها والعمل بها، بأنّ من كان به داءٌ يُمكن أن ينقله لغيره فينبغي عزل نفسه اختيارًا، وينبغي له ترك الجمعة والجماعة وله الأجر كاملا، قال عليه الصلاة والسلام:(إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) [صحيح البخاري]، ولا ينبغي له إيذاء الآخرين في المسجد ولا في غيره، قال عليه الصلاة والسلام: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) [موطأ مالك]، وهذا الحجر له أصلٌ في ديننا، بل إنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أمر أن لا يُدخَل مريضٌ على صحيح، ولا يُورد الجمل الأجرب على الجمل السليم، فكيف بالإنسان؟
ولكن؛ هل كان تعاملنا أثناء اشتداد الجائحة وتضاعف عدد الإصابات وفق السنّة؟ وكم نحن أدعياء الأخذ بالسنن ووصايا النبي عليه الصلاة والسلام، لكن حالنا كان خلاف الصّواب، وقد أصاب الأمة عبر تاريخها أوبئة تنتقل بالخلطة والاجتماع، فما كان من العلماء إلاّ أَنْ ألزموا الأفراد بالعزلة لئلاّ تهلك الأمة، بينما نحن -إلاّ من رحم الله- منّا من كان يُخالط النّاس وهو موبوء، ويُجالس الأصحّاءَ من له احتكاك بالأطباء والمباشرين لهذا الداء وغير ذلك، ولقد مات عدد من الناس بسبب استهزاء وتهاون العديد من الأفراد.
ففي قصة لإحدى الطبيبات من عائلة تمتهن الطبّ، ذَكَرَت أنّه لما انتشر الوباء طلب والدُها منها ومن إخوتها أن يغلقوا العيادة ويلتزموا الحجر، خصوصًا وأنّ عيادتهم لا علاقة لها بعلاج المصابين بكوفيد 19، بمعنى أنّهم حتى وإن فتحوها لا يستقبلون المصابين بهذا الوباء، فلا حرج عليهم إن أغلقوا عيادتهم، تقول الطبيبة: إنها لم تلتزم الحجر ولم تكفّ عن التطبيب، فأصيبت بالوباء، ثم كانت السبب في نقل الوباء إلى والدها الذي تُوفي متأثّراً به، تقول ذلك وهي نادمة أشدّ الندم على أنها لم تلتزم.
ولقد ذكرنا هذه القصة بعد أن اخترناها بعناية لنُدرك حقيقة تعاملنا مع الوباء، فهذه طبيبة، مُثقفة، واعية بحجم الخطورة، ومُعرّضة للإصابة أكثر من غيرها، كما أنّها تلقّت التنبيه من أقرب النّاس إليها، ومع ذلك أصرّت على عدم الامتثال، وتجاهلت الخطورة، فماذا ينفع الندم بعد ذلك، فإذا كانت هذه العيّنة من الناس بهذا الحال فكيف حال أشخاص من صنف آخر؟
إنّ أهمّ ما نتعلّمه من كورونا أنّه ينبغي للمسلم أن يعمل بما ينصح به أهل الخبرة، وأن يكون مع المسلمين لا ضدّهم، وأن يكره لهم الأذى كما يكرهه لنفسه، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الأنبياء: 7]، وقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) [صحيح البخاري].
ولما عُلّقت الجمعة وعُطّلت وأغلقت المساجد أحزنَ ذلك كثيرين، وحُقّ لهم أن يحزنوا، فالمسجد ملتقى المصلّين، وفيه مناجاة ربّ العالمين، وفيه تُرفع المعنويات بالمواعظ، ويزداد المؤمنون إيمانًا بالصلاة والدعاء، ومنه تنطلق النفوس نحو فعل الخير وصنائع المعروف، وعند الشدائد يكون المسجد هو الملاذ لأجل ما ذكرنا، ولكن لـمّا كان اجتماع النّاس وتلاقيهم قد يرفع من احتمال الإصابة بهذا الوباء اتُخذ هذا الإجراء بعد فرض المنع من الخروج على جميع الأصعدة، وأفتى العلماء بجواز تعليق صلاة الجمعة والجماعة للمصلحة العامة في العالم الإسلامي كلّه، ومع ذلك خالف بعض المصلين الإجراء، وأظهروا أسفهم تجاه هذه الشعيرة، وليس من أظهر المخالفة أشدّ حُزنا ممن أسرّ ذلك في نفسه وكتمه في قلبه.
وإنّ ممّا نتعلّمه من هذه المسألة: أنه ينبغي للمسلم التزام ما ذكره أهل العلم، وإذا بيّن العلماء حُكمًا ولو استثناءً فينبغي عدم مخالفته، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بالمصلحة العامّة، وكان هناك ضررٌ محقّقٌ أو مُحتمل، والله تعلى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، والعلماء ورثة الأنبياء، وهم أمنة الأمّة على دينها، وأعلم النّاس بمصالحها.
وممّا ينبغي التنبيه إليه: أنه لا يُلتفت لمن خالف جموع العلماء في مثل هذه القضايا، فحتّى وإن أفتى أفرادٌ منهم بغير ما أفتى جموع العلماء ومجامع الفقه؛ فإنّ تلك الفتاوى تعتبر شاذّة، والخلاف في كثير من المسائل موجود، لكن العمل بما عليه جماهير العلماء، ولا عبرة بالظنّ البيّن خطؤه، كما جاء في القاعدة الفقهية، وقد أمر الله باتّباع سبيل المؤمنين لا مخالفتَهم، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)[النساء: 115]، وقال عليه الصلاة والسلام: (فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) [مسند أحمد والمستدرك]، ولذلك فإنّ مخالفة البعض منّا، وإنكارهم لما أرشد إليه العلماء ونصحوا به، وادّعاؤهم مثلا: عدم جواز الصّلاة متباعدين، وغير ذلك ممّا عمل به المسلمون استثناء، بُعدٌ عن الصواب، وجهلٌ بالواقع، وعدم إدراكٍ بالمصلحة، وخلافهم غير مُعتبر.
إنّنا شكونا الله لمـّا أغلقت المساجد، وتباكينا لمـّا قيل لنا: الصلاة في بيوتكم، ولكن لمـّا فُتحت المساجد ودُعي إليها المصلّون، كانت الفرحة واسعة، والإقبال عظيم، ثمّ ما لبثنا حتّى صارت المساجد تشكونا إلى الله من قلّة الإقبال، وصلاة الصّبح تشهد لنا أو علينا، ونحن في شهر رمضان، شهر الاجتهاد، شهر القيام وتلاوة القرآن، وقد حُرمنا من ذلك العام الماضي بسبب غلق المساجد، فهل نستدرك ما فات ونتعظ؟ أم نكتشف أنّ تباكينا على المساجد كان مجرّد ادّعاء؟ فعلى المسلم أن يتعلّم الصدق مع الله تعالى، وأن يلتزم تعاليم دينه سبحانه، ويُخالفَ هواه لا يُخالفُ المسلمين.
وممّا ينبغي ذكره عن زمن كورونا: أنّ المسلمين كانوا أرقى في التعامل مع الأزمات من أمم كثيرة، وقد لاحظ العالم التكافل بين المسلمين، بل وإيثار الناس بعضهم على بعض، والقوافل التي حملت الأغذية والوسائل الطبية شاهدة على ذلك، وممّا أبهر العالم أنّه مع قلّة الوسائل وضعف المنظومة الصحّية، إلاّ أنّ الإصابات وعدد الموتى منهم كان الأضعف والأقلّ بين الدول، وما ذلك إلاّ بفضل تعاليم الإسلام في إلزام المسلم بالنظافة الذاتية، وهذا ما أقرّته المنظمات العالمية، من أنّ الطهارة والغسل بانتظام يُسْهم كثيراً في حفظ الصحّة، ويضمن نسبةً عاليةً من السّلامة، فما على المسلم إلاّ الالتزام والاعتزاز بدينه، ويحرص على استكمال تعاليم دينه؛ فإنّه على الحق.
وتذكّروا ما دعا إليه أطباء العالم لمـّا اشتدّت أزمة كورونا، حيث دعوا إلى الصّيام؛ لأنّه يُجدّد المناعة ويُقوّي خلايا الجسم، فتمسّكوا عباد الله بدينكم، والتزموا طاعة ربكم، واشكروه على المعافاة.