يطيب لي أن أسهم بهذه النقاط التحليلية في تجلية نواحي من الموضوع، وأضعها بين يدي المهتمين والمتخصصين للإثراء:
اهتمام النّاس بالحكم الشّرعي لما هم مقبلون عليه من قول أو فعل، صغيرًا كان أو كبيرًا، أمرٌ محمودٌ بل مطلوبٌ شرعًا، وعدم الاهتمام بذلك، خلل عظيم في دين الفرد والجماعة، أمّا “إيديولوجية” استبعاد أحكام الشّرع من الحكم على أفعال العباد صحّة وفسادًا، جوازًا ومنعًا، فهي من نواقض الإيمان، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). وهذه من المسلّمات الشّرعية المعلومة.
الأصل في إنشاء العقود والتصرّفات أن تكون على وفق أحكام الشّرع، ابتداءً وانتهاءً، وقد نُقض هذا الأصل في كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والقانونية المؤطرة لحياة المسلمين، وصدق في ذلك قول النبي ﷺ : (لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة …)، وهي حالة طرأت على الأمّة مع آبدة الاستعمار، وكان الواجب الفوري -ونحن في ذكرى الاستقلال المجيد- الرجوع إلى الحالة الأصلية من احتكام المسلمين إلى شريعة الله -عزّوجلّ- في مختلف جوانب حياتهم، فور الاستقلال السياسي والعسكري والحضاري عن هيمنة المستعمر، لكنّ الأزمة الاستعمارية انتقلت من احتلال الأرض إلى احتلال الفكر والثقافة، خاصة على مستوى النخب التي تولّت إدارة الشأن العام للمسلمين، في كثير من البلدان، وتبعًا لذلك نشأت ظاهرة القوانين المستنسخة من النموذج الغربي المنسلخ عن هداية الشرائع السماوية، تحت نظرية العلمانية، وفصل الدين عن شؤون الحياة، ومن ذلك إنشاء العقود والتصرفات، فهي في الأعم الأغلب عقود منقولة ومترجمة ومعدّلة عن نماذج معمول بها في منظومة العقود الغربية، ولا يلتفت فيها إلى مراعاة أحكام الشّرع بتاتًا.
السعي في تعديل هذا الوضع المنحرف ليس له مسلك واحد، بل يتطلّب عدّة خطط ومسالك كلية وجزئية، استراتيجية ومؤقتة، استبدالية وترقيعية، فكل ذلك مطلوب، ومن جنس منهج الشريعة في الإصلاح والتغيير والتعامل مع الواقع المعقّد، وبلوغ الغاية فيها ليس عمل يوم وليلة، بل هو مشروع طويل الأمد، قد يستغرق حياة أجيال بأكملها، فالمسلك الكلي والاستراتيجي والاستبدالي هو إحلال الشريعة في مكانها الأصلي الذي نزلت من أجل تبوّئه (الهداية والحكم والتشريع)، ودون ذلك كفاح ومقاومة للهيمنة الغربية التي تحارب -بشتى الوسائل- كل نموذج حضاري مضاد أو مختلف عن النموذج الذي تفرضه على العالم، وبالأخص النموذج الإسلامي. وأمّا المسالك الجزئية، فتتراوح بين:
إصلاح ما يمكن إصلاحه من التشريعات والقوانين، واقتراح البدائل التشريعية الممكنة.
الأخذ بالعزيمة الفردية في تجنب شبهة الحرام.
فقه التماس المخارج الفقهية.
فقه الحاجات والضرورات.
… إلخ
في ضوء ما سبق؛ فإنّ عقود سكنات عدل، على غرار منظومة التشريعات والقوانين الوضعية؛ لم تبن على مراعاة أحكام الشّرع، ولهذا جاءت على صورة غريبة عن منظومة الفقه الإسلامي في العقود، والتي تفرق بين أحكام المعاوضات، وأحكام التبرعات، وأحكام المداينات، أحكام بيع الموجود وأحكام بيع المعدوم، أحكام بيع الأعيان وأحكام بيع المنافع … إلخ، وإزاء هذا الوضع فنحن أمام خيارات -أرى والله أعلم- أنها صالحة جميعا للإعمال، وأنّها بمجموعها مسلك إصلاح وتغيير.
الخيار الأول: دعوة المشرّع الوضعي إلى تعديل ما يخلّ بصحّة المعاملة شرعا.
وهذا ممكن انطلاقا من إقرار المشرّع الوضعي باستقلال مبادئ المالية الإسلامية عن المالية الوضعية، فيما سمي بــ (الصيرفة الإسلامية)، فندعوه إلى توسيع العمل بهذا المبدأ في عقود أخرى وأخرى، لا سيما هذه التي تمس إليها الحاجة العامة، كعقود السكن، وفي حال استجابة المشرّع لذلك يحل الإشكال من أساسه، وتعرض البدائل الشرعية الممكنة، وهي متعددة.
الخيار الثاني: الأخذ بالعزيمة الفردية في تجنب شبهة الحرام.
والعزيمة أو (الورع) مقام من مقامات التدين الفردي، الذي وردت به نصوص عديدة، كقوله ﷺ : (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وقوله: (إنك لن تدع شيئاً لله عزّ وجلّ إلّا بدّلك الله به ما هو خير لك منه). فمن كان من أهل العزائم فهذا مقامه المناسب.
الخيار الثالث: التماس (التحليل) بوجه من الوجوه الاجتهادية المذهبية وغير المذهبية.
وهذا مبنيّ على أنّ مقام الورع والعزيمة لا تبنى عليه الفتوى العامّة، لأنّ النّاس لا يتأتى حملهم على مقام واحد، لا سيما مقام الورع، وهم في تديّنهم مقامات شتى، لا سيما في هذا الزمان الذي خفّت فيه الدّيانة جدّا، والحمل على مقام الورع في الفتوى فيه فتنة للناس، من جهة التضييق على مصالحهم الدنيوية، فإن لم يجدوا إلا فتوى الورع يتجرؤون -لا محالة- على الاستحلال بالهوى، دونما تقيّد بوجه شرعي، وينتقلون من مقام خفة الدّين، إلى مقام عدم المراعاة لحكم الدّين، ويقدمون على الفعل غير عابئين بفتوى المفتي، فتكون الفتوى ذريعة لإفساد الضمير الدّيني لهؤلاء. وفي مثل هذا تكلّم فقهاؤنا عن فقه المخارج، والتماس الوجوه الاجتهادية السائغة في التحليل، لإبقاء المكلّف ضمن ربقة التكليف.
وهذا الخيار يكاد الفقه المالي المعاصر ينتحله في معظم الفتاوى والقرارات المجمعية، لما ذكرناه من هيمنة المنظومة الاقتصادية والمالية الغربية على العالم، بما فيه العالم الإسلامي، وعدم انسجامها مع المنظومة الإسلامية إلا اتفاقا.
وإذا كان كذلك؛ فالموازنة بين التخريجات تغدو مسألة تفصيلية، المطلوب فيها التماس أقرب التحقيقات التي تجنّبنا التمحّل، والتحيّل المذموم، والشكلانية، قدر الإمكان، وفي هذا الباب أقترح إدراج عقود السكنات ضمن صندوق تكافل اجتماعي خاص بالسكن، يتكافل فيه المساهمون من جهة، والدولة من جهة، بقصد التبرع والتضامن، فيصح كصحة التكافلات الاجتماعية القائمة على مبدأ التبرع، ويسلم من كافة مفسدات عقود المعاوضات، والمداينات، من جهالة، وغرر، وربا، وتركيب العقود، وغير ذلك.
الخيار الرابع: فقه الضرورة.
من الخيارات الإفتائية الممكنة أيضا؛ فقه الضرورات، والحاجات العامة، أي: مع الإقرار بالحرمة والفساد، بناء على أنّ امتلاك السّكن لمن يجحف الإيجار بمدخوله الشهري والسنوي؛ يعدّ من الحاجات العامّة التي تُنزّل منزلة الضرورات، وإجحاف الإيجار بالمدخول يعدّ الحالة العامة في الجزائر، نظرا لضعف الرواتب، وضعف القدرة الشرائية، حيث إنّ متوسط دخل الفرد حسب إحصاءات السنوات الأخيرة هو في حدود 250 دولار/شهريا، وهذا مبلغ لا يمكن رصده للكراء والمعيشة معا، فيفتى على ضوء ذلك بجواز التعامل بهذه العقود ضرورة، بناء على قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، ويستثنى من هذا التعميم القادر على التأجير دونما تضييق أو إجحاف بمدخوله، تقديرا للضرورة بقدرها.