استفتاح …
ليست المرة الأولى التي أستشعر فيها خطر الدهماء على الرأي العامّ، والشّأن العام، والدّين والوطن، والقيم، والعلم وأهل العلم … وعلى كلّ شيء. بل ما تزال الدهمائية في مدّ والنخبائية في جزر، مذْ تسلّط الاستبداد على رقاب الأمم والشعوب، فهو يستهزل هذه، ويستسمن تلك.
ولكن كان المرء يستروح لشيء من التوازن يراه في بعض الشّعاب، لا سيما شعاب المعرفة التي لا قِبَل للدهماء بها، ولا سيما في المواقف العظمى التي ترجح فيها كفّة الوعي والعقل والحكمة على تغوّل الدهماء، ولكن يبدو أنّ ذلكم التوازن مرهونٌ بتوازن الاستبداد نفسه واستقراره، أمّا في الأزمنة التي يتعرّض فيها لشدّة الاضطراب والاختلال، ويفقد بوصلة الثبات، وتتهدّده عوامل الزوال؛ فإنّه يلوّح وقتئذ بكلّ الأدوات والأسلحة الفتّاكة، التي تنقل الاضطراب إلى الضفة الأخرى، فيرمي بالمعركة من ساحة بيته إلى ساحة خصمه، يشغله بها إلى أن يرتّب أوراقه من جديد.
تلك هي الداهية التي رُمينا بها في هذه الأيام والأعوام، فأُشهِرت فيها أسلحةٌ لا تُدخِّن ولا تُدوِّي، ولكنّها أفتك من المدفع المدوّي، وأحسب أنّ الدهمائية هي أحد هذه الأسلحة الفتّاكة التي أشهرت، فأصبحت مشاهد كبرى على مسرح الأحداث أبطالها الدهماء، وحيثما ألقيتَ سمعاً أو بصراً أو بالاً صادفتَ بطلاً من أبطال الدهمائية يصنع المشهد والمحتوى، هذا ما راعني، وزاد همّي، واستنهض فكري وقلمي.
إنّ الدهمائية حالةٌ لا يخلو منها مجتمع، بل لا يخلو من بعض عوارضها شخصٌ من الأشخاص إذا فقد توازنه، إلاّ أنّها تكون في سكون وركون، أو في تفاعلات جزئية مهملة بالنّسبة لحالة الوعي والسلوك الراشد العام، في عامة أحوال الثبات والاستقرار، حتّى تُهيَّج بفعل فاعل، ودفع دافع، كما تُهيَّج خلية الزنابير، فتغدو شرسةً عدوانيةً قتّالة.
وسكون الدهماء يؤول إلى شبه عدم حينما يسلك الساسةُ مسالك البناء الحضاري لدولهم وشعوبهم، فتصبح متعلّمة، متحضّرة، تتنافس على المعارف، وتتسابق في تحصيل القيم العالية. أمّا حينما يسلكون مسالك الاستبداد؛ فإنّ الدهماء تُسْتسمَن لوقت الشدّة، أي لوقت الفتك بما يعرِّض حالة الاستبداد للزوال.
والسبل المعروفة لاستسمان الدهماء هي التجهيل، والإذلال، والتفقير، والتخويف، والإطماع، وشغلها بالسفاسف كأنّها مهمّات، وبالدنايا كأنّها ملمّات، وسلب الحقوق والحريات، والتضليل الإعلامي، مع كسر القيم وقلبها، والإزراء بالعلماء والحكماء والعقلاء والعارفين والمناضلين وذوي الشأن والتأثير، بتهميشهم، والقدح فيهم، واتهامهم، وتتفيههم، وإسقاط رمزيتهم، وهلمَّ شيطنةً مدروسةً وممنهجة، مع صناعة نخب مزيّفة، دهمائيات بشحمها ولحمها، غير أنّها تلبس بدلات، وتربط ربطات، وتتقّعر بألفاظ ومصطلحات، قد تبوّأت مناصب، بله مغاصب.
فإذا جاءت الفاتكة؛ يكفي المستبدّ أن يضع العصا في عشّ الدبابير السمينة؛ حتّى تهيج الهائجة، وتقوم الحالقة العمياء التي لا تبقي ولا تذر.
فبينما ترى في الأوضاع الطبيعية؛ إماماً يخطب على المصلّين وهم منصتون، وأستاذًا يعلّم الطّلبة وهم متأدّبون، وعالماً أو مفكّراً أو حكيماً يلقي بمنخول خبرته الطويلة، ومنتجبات تأمّلاته وتفكّراته الحياتية العميقة على من يلتقطها التقاط الدرر، ويفرح بها فرح الناشد لضالّة تحمل طعام حريته، وشراب كرامته، ترى في الهائجة الإمام مسبوباً، والأستاذ مشتومًا، والمفكّر قد نصبت له مشانق الإعدام الجسدي والمعنوي.
إنّ ظاهرة الدهماء؛ قد أخذت حيّزاً من اهتمام القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وقصص الأنبياء والصالحين، وتأصيلات العلماء والأصوليين، لما لها من خطرٍ ماحقٍ يجب على أهل الشأن ألاّ يستخفّوا به، وأن يعدّوا العدّة لمجابهته. فقد تكلّم ربّنا جلّ جلاله عن السّفهاء من النّاس، وعن طبقات من النّاس هم أضلّ من الأنعام، فقال سبحانه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ) [البقرة: 142]، وقال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5]. وقال على لسان نبيّه موسى عليه السلام: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ) [الأعراف: 155]. وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179]، وقال: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44].
وفي السيرة النّبوية المحمّدية على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التسليم؛ تطاول رجلٌ على مقام النبوة معترضًا على قضاءٍ قضاه أعدل الخلق وأحكم الخلق -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: (أن كان ابن عمّتك) [البخاري]، يتّهمه بالمحاباة وهو القائل حالفاً بالله: (وأيم الله؛ لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها) [البخاري]، وجِلفٌ من أجلاف اليهود يقتضي دينه من أوفى الخلق بدَيْن، وأسخاهم بعطاء، بقوله: (إنّكم يا بني عبد المطّلب أصحاب مطل) [الحاكم]، وفي قسمة قسمها أنصف القاسمين قال جدّ المارقين: (والله إنّ هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله)، حتّى قال سيّد الصّابرين: (رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [البخاري]. مشيراً عليه أزكى الصلاة والتسليم إلى ما نال الأنبياء من أذى الدهماء.
والنّبوة أعلى مقام بشري، يصل إليه إنسانٌ على الإطلاق، في قوة العقل، وحدّة القريحة، وكمال الحكمة، وتمام الأخلاق، والخبرة الحياتية العميقة، بله المعرفة اللَّدُنية، ناهيك بالعصمة في التبليغ عن الله؛ ذلك المقام السامق لم يمنع الدّهماء أن تَطَاول على حكمة الأنبياء ومعارفهم وبصرهم بالحقّ، بما يندى له الجبين.
وفي الهدي النّبوي حذّر الصّادق المصدوق -صلّى الله عليه وسلّم- من الرويبضة: (الرجل التافه)، (السفيه)، (الفويسق)، (من لا يؤبه له) … (يتكلّم في أمر العامّة) [أحمد وغيره]. وأخبر أنّ من أبعد الناس منزلة منه يوم القيامة: (الثرثارون المتشدّقون المتفيقهون) [الطبراني].
وفي العهد الراشدي؛ قتل الدهماء أفضل خلق الله بعد الأنبياء؛ الخلفاء الراشدين: عمر، وعثمان، وعلي، وخبروا منهم قبل موتهم ألوان التفتين والإضرار، وقد أفصح سيّدنا علي -رضي الله عنه- عن ضررهم ومرّ عشرتهم، قائلا: (الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع غوغاء أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح). وكان سيّدنا الحسن بن علي -رضي الله عنهما- إذا ذكر الغوغاء وأهل السوق قال: (قتلة الأنبياء).
وفي عهد المذاهب والطوائف والفرق؛ كان الدهماء السّلاح الفتّاك الذي يُسَلُّ في وجه المخالف من العلماء، فيُقتَل بيدهم، أو يُنفى من الأرض، أو تحرق كتبه، بعد أن تلصق به تهم التكفير والتبديع والتضليل. فقد ضرب الدّهماء الإمام النّسائي صاحب السنن، في الجامع في دمشق، حتّى اعتلّ، ثمّ مات (303ه)، لا لشيء إلاّ لتصنيفه في فضائل أمير المؤمنين علي، متّهمينه بالرفض والتشيّع. وحاصر الدّهماء بيت الإمام الطبري، لخلافات بينه وبين بعض الحنابلة، مانعين إياه من التدريس حتّى في بيته، حتّى مات (309ه)، وحتّى منعوا دفنه خارج بيته. وكاد غوغاء الحنفية أن يقتلوا الحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ في الموصل، وفي هذا الزمان القريب حاول دهماء الصوفية قتل الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس، وشخصيةٌ عظيمةٌ كالأمير عبد القادر؛ تصفه الدهمائيات بالماسونية، أو بالكفر والإلحاد، أو بالخيانة والانهزام، وقتل الدهماء وطعنوا وفتكوا بأنجب من ولدت الجزائر وليبيا وسوريا ومصر والحجاز من الشرفاء والفضلاء والعلماء والمجاهدين.
وما من أريب من أهل الأرب إلاّ باح بـمُرِّ الشكوى من الدهماء، والمتعالمين، والسفهاء، لسان حاله قول لبيد:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم .. وبقيتُ في خَلْف كجلد الأجرب
أمّا في علوم الاجتهاد فإنّ العلماء قد تواطؤوا على أنّه لا عبرة بموافقة أو مخالفة من عاميّ غير متأهّل، فلا رأيه يعقد إجماعًا، ولا هو بناقضه. بل عدّوا العلماء من غير الفقهاء، كالنّحويين والمتكلّمين، في درجة العوام إن كانت المسألة فقهية.
والإمام الشّافعي في الرّسالة يقسّم العلم إلى علمين: علم عامّة، وعلم خاصّة. والبخاري بوّب في صحيحه: باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألاّ يفهموا.
وفي القرن الثالث الهجري كتب ابن المرزبان (فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب)، وكتب حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي بعده بقرنين: (إلجام العوامّ عن علم الكلام)، وكتب النابلسي: (زيادة البسطة في بيان العلم نقطة)، أي: نقطة كثّرها الجاهلون، وكتب أبو القاسم الزياني: (تحفة النبهاء في التفرقة بين الفقهاء والسفهاء).
والشاطبي يقرّر في الموافقات: (أنه ليس كلّ ما يعلم ممّا هو حقّ يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة وممّا يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص). فكلّما كان متلقّي العلم غير متأهّل لوضعه في مواضعه؛ كان فتنةً عليه بالعَرَض، وإن كان حكمةً بالذّات.
ولذلك حينما أراد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه وأرضاه- أن يقوم فيخطب في الناس في موسم الحج، لمقالة خطيرة سمع رهطا قد تكلّموا بها؛ قال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الموسم يجمع رعاع النّاس وغوغاءهم، وإنّهم الذين يغلبون على مجلسك، وإنّي لخائفٌ إن قلت اليوم مقالة ألاّ يعوها ولا يحفظوها، ولا يضعوها على مواضعها، وأن يطيروا بها كلّ مطير، ولكن أمهل حتّى تقدم المدينة، دار الهجرة والسنّة، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فتقول ما قلت متمكّنا، فيعوا مقالتك، ويضعوها على مواضعها، فقال عمر: والله لأقومنّ بها في أوّل مقام أقومه بالمدينة.
كما أنّ الدهماء كانوا السّلاح الفتّاك في يد الأمراء والحكّام المستبدّين، كما قال الكواكبي: (العوامّ هم قوّة المستبدّ وقُوتُه، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة) [طبائع الاستبداد].
وذكر الخطّابي في كتابه (العزلة) أنّ ممّا يعدّ به الرجل غوغائياً أن: (يحضر يوم يعرض السّلطان أهل السّجون فيقول: فلان أجلد من فلان)، وأن يجلس (إذا خرج الأمير يوم الجمعة، على ظهر الطريق حتّى يمرّ، ثمّ يقيم بمكانه حتّى يصلّي وينصرف).
وفي تنظيرات الفقه السياسي، تحفّظ علماؤنا من أن يكاثر الدهماءُ العقلاءَ والحكماءَ وأهل الحلّ والعقد في الرأي السياسي، ناهيك بالتقرير والتدبير.
وليس بعيدًا عن ذلك التحفّظ؛ لم تكتسب الديمقراطية سمعةً حسنةً إلاّ عند صياغة الدستور الأمريكي، الذي أدخل عليها جملة من الاحترازات، والتقييدات، لتلافي ثغراتها السيئة التي جعلتها توصف بحكم الغوغاء، الذين يبنون آراءهم وخياراتهم على وفق مشاعرهم وعواطفهم الجياشة التي يفوز بها من يحسن استثارتها، ولذلك تعتمد أمريكا في نظام الانتخابات الرئاسية طريقة فارزة لأصوات الناخبين، تنتهي عند مجمع انتخابي نخبوي Electoral College، يتألّف من 538 مندوبا؛ هو الذي ينتخب الرئيس، وأحسب هذا قريباً من مفهوم أهل الحلّ والعقد في الإسلام، قبل أن يستبدّ به المستبدّون، ويحوّلوهم إلى أهل الطبل والتزمير.
كما أنّ الدهماء هم أبطال المشاهد آخر الزمان، فقد أخبر الصّادق المصدوق -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ من علامات الساعة قبض العلماء، وأن يتّخذ النّاس رؤوسًا جُهّالاً، يُفتون بغير علم، وأن يُلتَمس العلم عند الأصاغر، ومن علاماته: أن يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب، ويُخوَّن الأمين، ويُؤتمن الخَؤون، ويشهد المرء وإن لم يُستشهَد، ويحلف وإن لم يُستحلَف، ويكون أسعد الناس بالدنيا لُكَعُ بنُ لُكَعَ، ومن علاماته: أن يسند الأمر إلى غير أهله، وأن يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان! ومنها: أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، ويُفتَح القول، ويخزن العمل. ومنها: أن يهلك الوُعُول، وتظهر التُّحُوت. قالوا: يا رسول الله: وما الوعول والتحوت؟ قال: الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتّحوت الذين كانوا تحت أقدام النّاس لا يعلم به. ومنها: أن تلد الأمة ربّتها، وأن يُبرِد الصّبي الشيخ [يجعله رسولاً في حوائجه]. ومنها: أن يكون زعيم القوم أرذلهم. وأن يصطلح الناس [للإمارة] على رجل كوَرَكٍ على ضلع [لقلّة علمه وضعف رأيه]، وأن يكون الأمراء فجرة، والوزراء كذبة، والأمناء خونة، والعرفاء ظلمة، والقرّاء فسقة، إذا لبسوا مسوك الضّأن، قلوبهم أنتن من الجيفة، وأمرّ من الصبر. ومنها: أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان.
ومشاهد أخرى كثيرةٌ يطول المقام عن استقصائها، حاصلها انقلاب موازين الحكمة، وانتكاس سُلّم القيم، وارتفاع شأن الدهماء والغوغاء والجهلة والسفهاء والفسقة، وقمع العلماء وكبح الحكماء ومحاربة العقلاء أو إغمارهم وإجبارهم على الانعزال وطلب السّلامة، بل طلب المنية التي هي أرحم من الحياة المتعفّنة، كما قال أبو العلاء بعدما وصف طرفا من تلك الحال:
فيا موت زُرْ إنّ الحياة ذميمةٌ .. ويا نفس جدّي إنّ دهرك هازلُ
وقال عبد الوهاب القاضي:
إذا استوتْ الأسافلُ والأعالي .. فقد طابتْ منادمةُ المنايا
وإنّ الكثير من تلك المشاهد المذكورة شاخصةٌ في حياتنا اليوم، ظاهرةٌ، جليّة، حتّى أصبحنا على يقين أنّنا ندرك من آخر الزمان الكثير.
وإذا كان كذلك؛ فإنّني أضع بين يديك أخي القارئ الكريم؛ جملةً من المواصفات التي يتّصف بها الدهماء، لأعيذ منها نفسي وإيّاك، فنجاهد الأنفس على البعد عنها بعد السماء عن الأرض، ولتعرف الدهمائيات التي تحيط بك وبغيرك، فتتصرّف معها كما يليق بك وبها، بما يعود عليك وعلى الصالح العام بالخير والرشد وحسم مادة الشر والفساد.
صفات الدهماء:
أوّل هذه الصّفات غلبة الجهل، وقلّة العقل، وانطماس البصيرة، وعدم إدراك الأمور على وجهها، إنّما يفهمونها معكوسةً مطموسةً على النقيض ممّا هي عليه، قد يعمّ ذلك جميع مدركات الدهمائي أو أغلبها، وتلك هي الدهمائية المطبقة، وقد لا يعمّ وإنّما يشتطّ في أمور وقضايا كثيرة. فالدهمائيّ لا يملك أدوات التحليل والتركيب والاستنباط، وآليات الفرز والتشقيق والتدقيق، لا أقول في خبايا الأمور وخفايا الأحوال فقط، بل حتّى في الظاهر البيّن منها، ومنشأ ذلك أنّه لا يصبر على عناء التعلُّم، وأناة التحلُّم، ولا يطيق الحوار لا سيّما المتعمّق الموغل في الوقوف على الحقائق بالتمحيص وتقليب زوايا النظر، واستخراج مخّ المسائل، ولبّ المعضلات، أمّا الاستقراء والتتبّع، والدراسة الاستقصائية، والبحث الموضوعي، والمنهجية البيداغوجية، وأساليب المقاربة والمقارنة، والمواءمة والموازنة، والنَّفَس الطويل في سبْر أغوار الرأي، وضرب الاحتمال بالاحتمال، والنَّخْل، والتوثّق في النّقْل؛ فهذه ضرّاته وآفاته، يفرّ منها كأنّها الجذام والبرص المعدي.
إنّ القضايا العلمية؛ لا سيما المتعلّقة بالشّأن العام، ولا سيّما التي تتعدّد أبعادها، فتكون تاريخية وسياسية وأمنية واجتماعية ونفسية وتربوية وشرعية وداخلية وخارجية؛ هي لا محالة قضايا شديدة التعقيد، وتحليلها الموضوعي المنصف يحتاج إلى جهود مضنية من التشقيق وتصحيح المقدّمات، وفكّ كبّة الصوف المتراكبة، ولا يتمّ ذلك في الغالب إلاّ بجهد جماعي، وعمل مخبري يؤطّره فريقٌ، أو فِرَقٌ متكاملة متعدّدةٌ التخصّصات والخبرات، في جوّ من الهدوء التامّ الذي يُسمع فيه وقْع الفكرة المنهجية دون سواها.
فهل رأيت قطّ دهمائياً هذا حاله؟! طبعًا لا .. فالدهمائيّ في أحسن حالاته يلوك المعرفة ويستعملها للاستعراض والاستهلاك، فهو غير صادق في البناء المعرفي، إنّما هو موجودٌ للتغوّل والتنمّر والمصادرة والاغتيال، لسان حاله: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! معركة ليست معركته على الحقيقة، بل هو فيها درعٌ من الدروع تُتّقى به الصّدمات والكدمات.
ولذلك أغلب الدهماء لا يقرؤون مقالي هذا؛ لأنّهم يستطيلونه جدًّا، ناهيك بأن يقرأ كتاباً أو كتباً، لكن ستجد الطاعنين في المقال وفي كاتبه؛ لمجرّد أنّ عنوانه يستفزُّهم جدًّا. فالدهمائي عجولٌ إلى الرأي، ملولٌ من الإصغاء، يصيبه بشدّة السّآمة، وهو مع فراغه وبطالته لا يبذل الوقت للتحقّق والتحقيق، إنّه متسرّعٌ إلى الحكم على الأشخاص والأقوال والأعمال، شغوفٌ بدحض ما لا يوافق عاجلَ انفعاله، مدفوعٌ في ذلك بأهواء في نفسه، وأدواء في قلبه.
ونتيجةً لجهله بحدود المعرفة؛ فهو لا يدرك حدود ذاته، ومن لا يدرك حدود ذاته كيف يدرك حدود غيره؟! لذلك تراه يُنادُّ الأكابر، ويضادُّ الأساطين، يتسوّر عليهم بعقله العصفوري، ويصَعَّدُ إلى مقاماتهم المعرفية العالية باستدراكاته الطفولية، أو يفاصلهم مفاصلة الذّبابة التي قالت للفيل: تثبّتْ فإنّني راحلة!
ومن صفاته: أنّه ممتلئٌ باليقينيات الجوفاء، والمطلقات العمياء، والتسليمات المبتذلة، فكلّ معقولاته يقينية، وجميع مدركاته قطعية جازمة كأنّما يرى الشمس، لكن في خيال لا في حقيقة، لا تتعارض لديه الأدلّة، ليس مِن إحاطةٍ كشأن الراسخين، بل من عدمها، فمبلغ علمه شُبهة الدليل، فمن أين يدخل عنده خصوص على عموم، أو تقييد على إطلاق، أو مفهوم على منطوق، أو مجاز على حقيقة، أو أمرٌ على نهي، إنّما تدخل هذه على من اتَّسَعت لديه منظومة الأدلّة، وتراءت له شبكاتها المعقّدة، فيحلُّها عقدةً عقدة، حتّى تكون خيطًا واحدًا.
لذلك فالدهمائيُّ استئصاليٌّ، حدِّيٌّ متطرّف، لا يعرف للوسط سبيلاً، مصابٌ بعمى الألوان، لا يرى إلاّ السّواد والبياض، كلّ قضية عنده كلّيةٌ صمّاءُ لا تقبل التفكيك، لذلك سيفاجئه قولك: حرّر محلّ النزاع، ماذا يحرّر؟! فأنت وأبوك وأمّك كلّكم محلّ نزاع، وهو إنما يستعدّ ليقطع، ويقلع، ويدحض، ويضرب مولَعًا بالإنهاء والنهاية، يظنّها حلبة ملاكمة أفضل سيناريوهاتها الضربة القاضية في أولى الجولات، لا يفهم أنّه إنّما يرى في أحسن الأحوال زاويةً أو نصف زاوية، ولذلك فالدهمائيُّ أخطر ما يكون إذا تمكّن من شيء من الفاعلية أو القرار، فقراره القتل، وفعله الذّبح، وشأنه التنكيل بالمخالف.
إنّ الوثوقية الصّلدة الخرقاء حالةٌ مناقضةٌ تمامًا لحالة العالِــم؛ فهو دائماً متحفّظ، متشكّك، لكثرة ما خبر من تهدّم يقينياته، ونسبية خلاصاته، وإضافية نتائجه، كما قال الشافعي:
كــلّما أدّبني الدّهـــــر .. أراني نقص عقلي
وكلّما ازددتُ علمًا .. زادني علمًا بجهلي
وبالغ شيخ المعرّة حتى ساوى بين العلماء والجهّال، لفرط ما أدرك من قلّة المعلوم في أكوان المجهول، فقال:
وما العلماء والجهّال إلاّ .. قريبٌ حين تنظر من قريبِ
بل إنّ الشكوكية مذهبٌ من مذاهب الفلسفة، وهي أوّل مراتب اليقين، (إذ الشّكوك هي الموصلة إلى الحقّ، فمن لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك) [الغزالي، ميزان العمل، آخر الكتاب]. وقد بلغ مبلغُها بديكارت ألاّ يتيقّن وجوده إلاّ بدليل شكّه، أنا أفكّر إذن أنا موجود، ولكنّ الدهمائيَّ موجودٌ بدون تفكير، حاضرٌ بكلّ يقين، متجهّزٌ بالفؤوس لحزّ الأعناق والرؤوس!
وثوقيةٌ تولّد حالةً خنفشاريةً مستعصيةً من العناد والمكابرة، والاعتداد بالجَهَلوت، والانتفاش بالفَرَغوت، كأنّما قضية النقاش قَصْعةٌ أحاط الدهمائيُّ بمآكلها، أو حليلةٌ ألـــمّ بمحارثها فهو يأتيها أنّى يشاء! والحقّ أنّ نسبته للقضية كنسبة البقلة للنخلة، بل أدنى من ذلك!
ولذلك فالدهمائيُّ لا ينقطع في المناظرة، ولا تفحمه الحجّة الدامغة، ولا يرجع عن رأي أبدًا، فهو يطالب بالحجّة التي وراء الحجّة الدامغة، في تسلسل لا ينتهي إلاّ عند قول بني إسرائيل: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153]، وقول قوم نوح: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود: 32].
ذلكم الاعتداد يستتبع بدوره ما سمّاه الأستاذ القدير حمّودة بن ساعي -رحمه الله-: (الرّداءة الطموحة)، رداءة لا تكتفي بعدم الكفاءة، حتّى تضمّ إليه التأمُّر والتسيّد والترأّس والزّعامة، والسعي بشتّى الوسائل لوضع النفس فيما لم تبلغه من منازل الأكفاء، فالدهمائيُّ مهوسٌ جدًّا بالمناصب والمسؤوليات، ثمّ لا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، حتّى يحطّ من شأن الأكفاء، ويرميهم بجميع ما في نفسه المعلولة، ويده المغلولة، من الغلّ والبغض والحسد والحقد والنقمة، كأنّما يثأر منهم لقِتْلة أبيه أو أمّه، فيلقى الأكفاءُ من جرّاء كيده الوضيع حتف الأسود الجائعة، كما قال الشافعي:
تموت الأسْد في الغابات جوعًا .. ولحم الضّأن تأكله الكلابُ
وذو جـــــهـــــل يــــنــــام عــــلـــى حرير .. وذو عــــــلــــــم مفـــــارشه الترابُ
لقد مات الأستاذ العملاق (حمّودة) الذي يصفه مالك بن نبي بقوله: (أستاذي)، في غَبَرة ترهقها قَتَرة، كاتباً عموميًّا في مقهى عمومي، لا يكاد يسدّ رمق يومه وليلته، بينما عاشت الحمير مسيَّدة، وماتت مسيَّدة!
ومن صفات الدهمائي: أنّه اصطفافـــيٌّ، قَطِيعيّ، إمّعةٌ باللفظ النبوي، ينتحل التقليد مِلَّة راسخة، والمحاكاة دينًا وديدنًا، فهو لا يمتلك شخصيةً معرفيةً أو نقديةً مستقلّة، إنّما يقف عند مهبّ الرّيح، ومصبّ السّيل، فحيثما جرفته نفسيّته الرِّخْوة انجرف. إنّ مصدر المعرفة الأوّل لدى الدهمائي: الانفعال، والانبهار، والعواطف الهائجة بكلّ أصنافها، غضباً وطرباً، وحبًّا وبغضًا، ورضًا وسخطًا، وفرحًا وحزنًا، فلذلك تشكّلُ قناعاتِه الحديديةَ زخرفاتُ القول، وشقشقات الخطب الرنّانة، ونبرات الصّوت الطنّانة، وحركات الجسد، والاستعراضيات بألوانها، أمّا كلُّ استدلالٍ يطول، وبرهان يغوص؛ فهو عنده فلسفةٌ ممجوجة، وتكلُّمٌ مذموم. فلذلك من السّهل جدًّا تضليلُه وتحريضُه وتحريشُه وتهييجُه، إنّه تَــبَّاعٌ للفُرجة، شَطَّاحٌ على إيقاع النّغمة، ينْشَدُّ لحرارة المشهد التصفيقي، ويذوب في الحالة التطبيلية، كأنّه صوفــيٌّ غاب في حضرة، أمّا برودة التفكير، وعزلة التأمّل، وحياد الموضوعية، وصرامة القاعدة التحليلية، فذلك قطبٌ متجمّدٌ لا تعيش فيه الأبعرة!
ومن صفاته أنّه اجتزائي: لأنّه اصطفافيٌّ، يأخذ منك ويأخذ عليك ما يجعل اصطفافيته حجّةً مطلقة، فلذلك لا ينظِم قطُّ صورةً منظوميةً كاملةً عنك، أو عن رأيك، أو موقفك، أو مذهبك، أو عن حدث، أو واقعة، أو عن تاريخ أو مستقبل، ومالي أذهب بعيدًا والدهماء تُعضّي الكتاب والسنة، وتقتسم منهما ما تشاء، على طريقة القائل:
دعِ الـمساجـــد للعُـــبَّاد تسكــنها .. وطُفْ بنا حول خَـمَّار لِيُسقينا
ما قال ربُّكَ ويلٌ للذين سَكروا .. ولكـــن قــــال ويلٌ للمُــــصــــــلّـــــينَا
وزيادة على الاجتزائية التي هي في نفسها تحريفٌ وتضليل؛ فهو يفهم من محامل الكلام المجزّأ أسوأها، فإن لم يجد حمّله بالعسف والتلبيس ما لا يحتمل، فإن لم يجد قال هذا مكنون صدرك ومدفون قصدك ونيّتك، نعم؛ نيّةٌ لا تعلمها أنت من نفسك، ولكن الدهمائيَّ كشّافَ السُّتور، علاّمَ الغيوب؛ يعلمها!
ومن صفاته: المغالطات المنطقية والحجاجية، فهو لا يكاد يُبرم وجهًا صحيحًا من الاستدلال، فمن مغالطاته كذب المقدّمات، وتكذيب الصّحيح منها، والاستنتاج ممّا لا ينتج، وربط ما لا يرتبط، وحصر ما لا ينحصر، والإلزام بما لا يُلزم، وتسبيب ما ليس سبباً، والتعليل بما ليس علّة، وتشييء ما ليس شيئًا، وتشخيص ما ليس شخصًا، والعيّنة غير الممثّلة، وتعميم ما لا يعمّ، وتخصيص ما لا يخصّ، وتقعيد ما ليس قاعدة، والتنزيل في غير مناط، والكلام خارج النزاع، والتلاعب بالدلالة الإحصائية، بتكثير ما ليس كثيراً، وتقليل ما ليس قليلاً، والتهويل، والتهوين، والمبالغات بأنواعها، وادّعاء التأثير فيما ليس مؤثّرا، ونفي التأثير عن المؤثّر فعلاً، والسؤال الخطأ، والسؤال المشحون، وقلب المشكلة الثانوية رئيسية، والرئيسية ثانوية، والإغراق في التفاصيل غير المهمّة، وإغفال التفاصيل المهمّة، وإهمال السياقات، والاحتكام لما ليس حَكَما، ومصادرة المطلوب، والحيدة عن الموضوع، والتفريق بين المتماثلات، والمماثلة بين المختلفات، والدَّوْر، والقلب، والنقض، وعدم الطرد، وعدم العكس، والحجج الظرفية، والحجج الشخصية، ومعالجة الخطأ بالخطأ، وتسميم البئر، والتحيّز، ومناشدة الشفقة في غير موضعها، والاستدلال بالأغلبية، أو بالأقلية، ومنطق القوة لا قوة المنطق، وما يطول ذكره من المغالطات اللامتناهية. نعم لا يسلم من المغالطة محتجّ، لكن من غلبت أو هيمنت على فكره ولسانه، فذلك الدهمائي.
ومن صفاته: السيولة، فهو يَتَقَوْلب بالقوالب، كالماء يتّخذ شكل آنيته، لا شكلَ لنفسه، ولا لون ولا طعم ولا ريح. لسان حاله وإن لم يكن لسان مقاله: مات الملك، عاش الملك. والملك ههنا ليس بالضرورة صاحب الدولة، بل هو صاحب السطوة الذي استأسره، وجعل منه شاةً في قطيع، فهو على كلّ حال لا ينفكّ عن صاحب، كلّما تطلّق استأسر من جديد.
ومن صفاته: العصبيات بألوانها، لنفسه، أو نسبه، أو عرقه، أو قومه، أو شيخه، أو مذهبه، أو جماعته، أو حزبه، إنّه ابنٌ وفـــيٌّ لقطيعه، لا يكتفي بعدم الحيدة عنه، ولكنّه ينتصر له بالحق والباطل في كلّ حال، شعاره:
ما أنا إلاّ من غُزيّة إن غَوَتْ .. غَوَيتُ وإن ترشد غُزيّةُ أرشد
ومن صفاته: حداثة الأسنان، كما أخبر المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- عن بعضهم: (يأتي في آخر الزّمان قومٌ حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البريّة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرمية، لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ قتلهم أجرٌ لمن قتلهم يوم القيامة) [البخاري]. وحداثة السنّ أمارة انعدام الخبرة والمعرفة، أو قلّتهما، فأعظم ما يكتسب منه المرء الدراية الراسخة؛ ليس معلِّماً يلقّنه، أو كتاباً يحفظه فقط، إنّما مدرسة الحياة وتجاربها التي تعرك صاحبها عَرْك الرّحَى بثفالها، كما قال البردوني في قصيدته (مدرسة الحياة):
ما أبــــلــــغَ الـــدّنــــيا وأبــــلـــــغَ درسها .. وأجـــــلَّـــــها وأجــــــلَّ مــــــا تــــــلـــــقــــــــــــيه
واســـمـــعْ تُـــحـــدّثْـــك الحياةُ فإنّــــها .. أســـــــتـــــاذةُ التـــأديب والـــتّــــفـــــقــــيــــه
وانــصَبْ فمدرسة الـحـيـــــاة بليغةٌ .. تـملي الدّروس وجَـــــلّ ما تـمـلــــيــــه
سَلْها وإن صمتت فصمتُ جــــلالها .. أجْــــلى من التّـــــصــــريح والتـــنـــــويــــــه
إنّ معتركات الحياة وحدها من تُعلّم الإنسان بالفعل لا بالقول: اتّساع العلوم، وتنوّع الخبرات، ونسبية المعارف، ومحدودية المدارك، وأصنافًا من المعارك، وتشابك الأمور، وتقلّب الأحوال، وتداول الأيام، وطبائع البشر، ومعادن الناس، وخصائص النفوس، وصفات الأصدقاء، وحقيقة الأعداء، وأصول الشرّ، ومنابت الأزمات، وشرارات الفتن، ومقدّمات الفساد، ومنتهى البدايات، ومبتدا النهايات، وتعلّمه الموازنات والأولويات، والمآمن والمخاطر، والممكنات والمستحيلات، والمهمّات والمـُخِلاّت، وتعلِّمه مواضع كلّ فضيلة: متى الصّمت، ومتى البيان، ومتى الإقدام، ومتى الإحجام، ومتى الحِلْم، ومتى الغضب، ومتى الحزم، ومتى العفو، ومتى الخلطة، ومتى العزلة … وهلمّ خبرةً ليس لها آخر.
كيف يستطيع الدهمائيُّ الحدَثُ تقدير هذا الأحوال المتلاطمة، أو ميزها، أو فرزها؛ وهو الذي لا جاء ولا ذهب، ولا تهذّب، ولا تأدّب، ولا تدرّب، ولا سافر، ولا غادر، ولا شاور، وكيف يصاول من حال حَوْلُه، وصال خيلُه، وطال في الحياة عركُه؟! كما قال جرير:
قد جرَّبتْ عركي في كلّ مُعتركٍ … غُلْبُ الأسود فما بال الضّغابيسِ
وَابْنُ اللَّـــبُون إِذا ما لُــــــزّ في قَرَنٍ … لم يسْتَطع صولة البُزْل القــــناعــيسِ
ومن صفاته: تقلّب المواقف، فإنّ اطّراد الموقف وثباتَه سرُّه المنهج، المنهج المنضبط بالقواعد التي هي أحكامٌ كلّية مشتملةٌ بالقوّة الذّهنية على ما يندرج تحتها، فإذا ندّت عنها حالةٌ شاردة؛ فلأنّ قاعدةً أقوى استدخلتها في مشمولاتها، فالمنهج قوّته ذهنية منطقية، والدهمائيُّ قوّته ريـحِية، فقد علمتَ أنّه شآمي، والفقه يمانِ، وأنه لا يحتكم لمنهج، ولكن لأهواء مستعرة تأجَّجُ في قعر نفس مهلهلة.
فلا يثق بكلام الدّهماء وعهدهم إلاّ مغترّ، إنّهم نَكَثة العهود، نَقَضة المواثيق، يكثرون عند الطّمع، ويقلّون عند الفزع، لــم تجفّ أقدامهم من بحر النّجاة مع موسى عليه السّلام، حتّى قالوا: (اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ) [الأعراف: 138]، وقالوا: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24]، ولم تُغمَد سيوفهم من القتال مع أمير المؤمنين عليّ حتّى قاتلوه بها.
ومن صفاته: الخوض في كلّ مخاضة، لا فرق لديه بين موضوع يتقنه وموضوع لا يتقنه، وبين علم يعرفه وعلم لا يعرفه، وبين مسألة كبيرة وأخرى صغيرة، لا يحتاج أن يكون متعدّد المواهب والمهارات، فإنّ مهارته الوحيدة متعدّدة الاستعمالات، صالحة لجميع الاختصاصات، ألا وهي مهارة التعالـم والتحاذق.
ومن أشدّ خوضاته: القيام في الفتن العمياء، والفتنة قبل أن تصبح فتنة؛ هي نازلةٌ من النّوازل الدقيقة، إذا حُصِر فيها الكلام على الخبراء المختصّين، وإذا تجرّدوا لاستخلاص الحقّ منها، وأسقطوا كلّ غاية سوى غاية العدل، فإنّهم لا محالة يحلُّون دقائقها، ويوضِّحون غوامضها، بعد حين طويل أو قصير، وبجهد يسير أو عسير، ولكنّها تصبح فتنة حينما يتولّى الشّأنَ فيها المغرضون، فيوجّهها كلُّ أحد نحو المسار الذي يحقّق مآربه، ثم تُغلَّف المسارات بالحجج الصّحيح منها والمغالط، فيزداد وجه الحقّ منها خفاءً، ثمّ تُجيّش وسائل الحسم والانتصار للرأي بالقوة، فتقع الفتنة. وكلّما كثر القائمون فيها ازدادت تأجُّجاً، فلذلك جاء في الشّرع النهي الشديد عن القيام في الفتن، لأنّ أكثر القائمين لا يحرّرونها، إنما يهيّجونها، والفتنة حالةٌ جِرَاحية، وليست حالة مِعْوَلية، تحتاج مقصًّا، ومِلقطًا، ومِبضعًا، ومِشرطًا، ومِـخيَطاً، بينما القائمون فيها يحملون السيوف والمعاول، أي: بالقول أو بالفعل، فيستحيل أن يتحرّر الحقّ فيها، إنّما تميل الكفّة للقوة والغلبة، ولذلك ترى أطراف الفتنة إذا لم يظهر أحدٌ منهم على الآخر بعد طول احتراب وتهالك وتفان، لتكافؤ قواهم، وتعادل مستواهم؛ رجعوا لما كان يطلب أوّل الأمر من التفاهم والحوار والتصالح! والشاهد أنّ الدهمائي مهارته الجراحية صفريةٌ، إنّما هو مفتّنٌ، ومسعّر حرب من الطراز الأول!
هذه عشر فقرات من بعض جوامع الصّفات، تحت كلّ فقرة منها نعوت وسمات، والحقّ أنّني سئمتُ من صفات الدهمائي السيّئة التي لا تنتهي، وعيل صبري من تعدادها، فإنّه كومةٌ من الآفات، وجبلٌ من العُقَد والعاهات، ولولا أنّ القلم سال من تلقائه هذا المسيل؛ فإنني ما كنت أعزم على التطويل، فالآن أكفُّه كفًّا، لأضرب لكم موعدًا مع الشطر الثاني من البيان، لاختصاص هذا العصر بدهمائية مستولدة في أرحام صناعية، نبيّن بعض جوانبها، مع التفريق بين ظاهرة الدهماء، وظاهرة الوعي الجمعي للشعوب الحية، والأمم الفاعلة، وموضع هذه من موضع تلك، محاولين الخلوص إلى نصائح وإرشادات، والله المستعان وعليه التكلان، نسأله خلوص القصد، وسداد القول، وصلاح العمل.
شارك المنشور على
Share this content