الاستشارة رقم -25-: حكم الصلاة على الكراسي

You are currently viewing الاستشارة رقم -25-: حكم الصلاة على الكراسي

الاستشارة رقم -25-: حكم الصلاة على الكراسي

 صدرت بتاريخ : الجمعة: 20 محرم 1446هـ

مجال الاستشارة: الفقه [ فقه العبادات ]

جوابًا على السؤال الآتي نصُّه:

تضاربت علينا الفتاوى بخصوص الصلاة على الكراسي بين من يقول بصحتها، ومن يقول ببطلانها، فنرجو منكم التكرم ببيان الحكم الشرعي في ذلك، بارك الله فيكم.


خلاصة الجواب:

الصلاة على الكراسي صحيحة، بشرط ألا وهو العجز الكلي أو الجزئي عن أداء الأركان الفعلية للصلاة، كما أن الصحة ليست على إطلاقها، بل مقيدة بأداء الأركان المقدور عليها، إذا كان ذلك لا يسبب ضررا أو مشقة للمصلي، فإن عجز المصلي عن السجود، لكنه قدر على القيام والركوع تعين عليه القيام والركوع، وإن عجز عن الركوع والسجود، وقدر على القيام تعين عليه القيام، وهكذا، وهذا للآيات والأحاديث الآتي ذكرها في التفصيل، وللقواعد الشرعية: المشقة تجب التيسير، الضرر يزال الميسور لا يسقط بالمعسور، تحقيق المناط الخاص في كل مكلف.

الجواب التفصيلي:

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلم وبارك على نبيّه المصطفى الأمين، وبعد:
فقد ظهرت ظاهرة الصّلاة على الكراسي منذ نحو ثلاثين سنة، وهي منذ ذلك الحين في تزايد ملحوظ، حتى أصبحت بعض المساجد تحوي عدداً كبيراً من الكراسي، وانتشرت فتاوى تتعلّق بتفاصيل الصلاة عليها، فعُلم منها تسليم أصحاب تلك الفتاوى بجواز أصلها، ثمّ ظهر من ينكر ذلك ويرى بدعية الصلاة عليها وبطلانها، وفيما يلي بيانٌ لحكم الصّلاة على الكراسي، وأدلّته، مع مناقشة مجملة للرأي المخالف.

أولا: حكم الصّلاة على الكراسي

الصّلاة على الكراسي لمن عجز عن أداء الأركان الفعلية للصلاة، عجزًا كليًّا أو جزئيًّا؛ صلاة صحيحة، بشرط أن يجتهد المصلّي في أداء ما يقدر عليه من الأركان دون مشقّة فادحة، فإن كان يقدر على القيام، لكن يعجز عن الرّكوع أو السّجود؛ تعيّن عليه القيام، وإن كان يقدر على القيام والركوع، ويعجز فقط عن السجود؛ تعيّن عليه القيام والرّكوع، وهكذا.

ثانيا: الأدلة الشرعية ووجه الاستدلال منها

من القرآن:
  • قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
وجه الاستدلال: أنّ الله لم يكلّفنا إلّا بما في وسعنا وطاقتنا، فمن عجز عن ركنٍ فعليٍّ كالركوع أو السجود أو القيام؛ أتى بما قدر عليه ممّا هو في وسعه وقدرته، وسقط عنه ما عجز عنه ممّا ليس في وسعه.
  • قوله تعالى: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
وجه الاستدلال: أنّ الله أمرنا أن نمتثل الأوامر ما كان ذلك في استطاعتنا، بأن يأتي المصلّي بالأركان كلّها ما استطاع، فإن عجز عن الإتيان بها، سقط ما عجز عنه وأدّاها قدر استطاعته.
  • قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
وجه الاستدلال: أنّ الحرج والمشقة منفيان في الدّين، وتكليف من لا يستطيع القيام جملة، أو من يخاف من القيام المرضَ أو زيادَته؛ من الحرج في الدّين.
من السنة:
  • قول النبيّ ﷺ : (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب) [البخاري: 1117].
وجه الاستدلال: أنّ القيام في صلاة الفريضة فرضٌ على كلّ مستطيع، فإن عجز عنه انتقل إلى حالة الجلوس، وإلّا تحوّل إلى الصّلاة على جنب، وهكذا سائر الأركان الفعلية الأخرى كالركوع والسجود؛ إن عجز عنها أتى بما يقدر عليه منها إيماء.
  • حديث أنس بن مالك: (أنّ رسول الله ركب فرسًا فَصُرِع عنه، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيمن، فصلَّى صلاةً من الصَّلوات وهو قاعد) [البخاري: 689].
وجه الاستدلال: أنّ النّبي ﷺ وقع له خدشٌ ورضٌّ في أعضائه منعه من القيام في الصلاة، فصلّى جالسا على الأرض، فيقاس عليه الصلاة على الكرسي.
  • قوله : (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) [البخاري: 7288، مسلم: 1337].
وجه الاستدلال: أنّ ما أُمر به المكلّف من أوامر كالقيام في الصلاة، يجب عليه الإتيان به ما دام مستطيعا، فإن عجز عنه سقط ككلّ فرض، وأتى بالصّلاة جالسًا، أو مضطجعًا إن عجز عن الجلوس.
ج. من القياس:
قياس الصلاة على الكراسي على الرُّخص التي شُرعت في الصّلاة تخفيفًا من الله ، كاستقبال القبلة، فمع أنه فرضٌ، وشرط صحة، لكنه يسقط عن المريض الذي لا قدرة له على التحوّل إليها، ولا يجد من يُحوّله. وكذلك حالة القتال إذا التحم المسلمون مع العدوّ، فإنّه يصلّي راكبًا أو قائماً، مستقبل القبلة أو غير مستقبل لها، بل يصلّي كيفما أمكنه، كما ثبت في السنة عن ابن عمر ب [البخاري: 4535، مسلم: 839].
وكذلك قياسًا على ما شُرع في العبادات من رُخَصٍ رفعًا للحرج والمشقّة، وقد بلغت أدلّة رفع الحرج في هذه الأمّة مبلغ القطع كما قال الشاطبي [الموافقات: 1/254]، وهو أحد الأوجه التي بنى عليها الشاطبي أنّ الأخذ بالرخص أولى؛ إذ هو موافقٌ لمقصود الشّرع في الرّفق بالمكلّف عن تحمّل المشاق، ووُصف هذا الدّين بالحنيفية السمحة لما فيه من التسهيل والتيسير، ومن أمثلة ذلك ما شرع من قصر الصّلاة للمسافر، وفطره في رمضان، وجمعه بين الصلاتين مشتركتي الوقت تقديمًا وتأخيرًا، والأمثلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصر.
د. من القواعد الفقهية والأصولية:
  •  الضرر يزال: ومعناها أنّ الضرر باعتباره مفسدةً يجب رفعه وإزالته إذا وقع؛ لأنّ إبقاء الضّرر إبقاءٌ للمفسدة، والمريض إذا ألزمناه بتكلّف الإتيان بالأركان التي تشقّ عليه وتسبّب له ضررًا، مخالفٌ لهذه القاعدة.
  •  المشقة تجلب التيسير: وهي إحدى القواعد الخمس الكبرى، وتعني أنّ المشقة الدّاخلة على المكلّف لأيّ سببٍ من الأسباب كالمرض أو السفر توجب له تخفيفًا من الشّرع مراعاةً لحاله، فمن كان مريضًا وترتّب عن قيامه في الصّلاة مشقّة، فإنّه يجوز له الصّلاة جالسًا تيسيرًا عليه؛ إذ المشقة تجلب التيسير.
  •  الميسور لا يسقط بالمعسور: وهذه القاعدة تقيد القاعدة السابقة: المشقّة تجلب التيسير، لأنّ المكلّف إذا لزمه واجبٌ من الواجبات ولم يمكنه الإتيان به، ولكنّه قدر على فعل بعضٍ منه دون بعض، فإنّه يجب عليه أداء ما قدر عليه منه، وعلى هذا فإنّ المصلّي مثلا إذا عجز عن الرّكوع، لكنه يقدر على القيام فلا يسقط عنه وجوب القيام لعجزه عن الركوع.
  •  تحقيق المناط العام، والمناط الخاص: فإن الحكم المذكور، وهو صحة الصلاة على الكراسي بشرط العجز؛ مقيّد بشرط العجز، وهذا القيدُ مناطٌ عام، لا بدّ من وجوده في المكلّف حتّى يُناط به الترخيص، مع مراعاة اختلاف الحال: العجز الكلّي، أو الجزئي، فإن تحقّق فالحكم ما ذكرنا، وإن لم يتحقّق فالحكم البطلان.

ثالثا: التفريق بين الفريضة والنافلة

ينبغي التنبّه إلى أنّ الحكم في مسألة الصلاة على الكراسي يقيّد بما إذا كانت الصلاة فرضا، فهي التي يجب فيها القيام، وتنزل عليها الأحكام السابقة، أما النافلة فيجوز فيها الجلوس، ولو كان المصلي قادرًا على القيام، بل يجوز أن يكون بعضه من قيام، وبعضه من جلوس. [انظر: الشرح الصغير: 2/523].
لكنّ المصلّي إن كان قادرًا على القيام وصلّى جالسًا، فليس له من الأجر إلّا نصف ما للقائم، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو ب [مسلم: 735].

رابعًا: مناقشة القائلين ببطلان الصلاة على الكراسي

عمدة حجّتهم ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين، قال: كانت بي بواسير فسألت النبي ﷺ عن الصلاة فقال: «صلِّ قائما، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فَعَلى جَنْب» [البخاري: 1117].
وجه الاستدلال منه:
  • أنّ هذا الحديث يبيِّن الهيئات التي يصلّي عليها الرّجل في أحوال القدرة والعجز، والصّلاة على الكرسيّ واسطةٌ بين القيام والقعود، فلم تجز لعدم التعرّض لذكرها مع قيام الدَّاعي إذْ قدْ علم وجود الكراسي في زمن التنزيل.
  • أنّ الصّلاة على الكراسيّ أمرٌ محدثٌ لم يُعرف في القرون السّالفة، ولا ذكره أحدٌ من الفقهاء بإقرار ولا إنكار.
  • في اتخاذ الكراسي في المساجد واعتياد الصّلاة عليها تشبّه بالنّصارى، مع ما فيها من منافاة التواضع والخشوع الذي ينبغي أن يكون حال المؤمن وهو مقبل على ربّه في بيت من بيوته.
  • ألفة الصلاة على الكراسي جرّت إلى استسهال إسقاط بعض أركان الصّلاة مع القدرة عليها، فمنهم من يقدر على القيام بشيء من التحمّل ويتركه، وإذا ترك القيام ترك الركوع؛ لأنّ ركوعه من جلوسه على الكرسيّ إيماءٌ، وليس ركوعاً، وبعضهم يومئ إلى السجود وهو قادر عليه. وإسقاط شيء من أركان الصلاة مع القدرة عليه مبطلٌ لها بلا شكّ ولا خلاف.
المناقشة:
لا شكّ أنّ الصّلاة على الكراسيِّ أمرٌ محدثٌ كما قالوا، ولذلك لم نجد له أثراً في كلام الفقهاء الماضين. وأمّا حديث عمران ابن حصين؛ فخرج على مقتضى ما نطق به كتاب الله تعالى من حدّ التكليف بقدر طاقة العبد وما يستطيعه، فما عجز عنه العبد في عبادة أصلية أو جزائية، عجزاً كلّياً أو جزئياً؛ فإنّ الشّارع يسقطه عنه إمّا إلى بدل على سبيل الرّخصة والتخفيف، وإمّا إلى غير بدل. وعلى هذا من استطاع أن يصلّي قائماً مستقلًّا لزمه ذلك، فإن لم يستطعه مستقلًّا، فمستنداً إلى عمود أو جدار، أو متّكئاً على عصا وما أشبهها، فإن عجز عن ذلك كلّه صلّى قاعداً مستقلًّا، فإن لم يستطع فمستنداً، فإن لم يستطع فمستلقياً على جنبه، وهكذا. فإن عجز عن الركوع مع قدرته على القيام، أومأ إليه ثمّ سجد، فإن صلّى قاعداً أومأ إليه من قعود كإيمائه للسّجود إن عجز عنه، ويكون إيماء سجوده أخفض من إيماء ركوعه.
فلو عجز عن القيام فصلّى على كرسيّ أو حافّة سرير وما أشبه ذلك؛ فهو كما لو صلّى قاعداً على الأرض في صدق الاسم على حالته وتناول الحديث لها، إذْ يُقال: قاعد على الأرض، وقاعد على كرسيّ، وقاعد على دكّة، وقاعد على صخرة. ولا غرض للشّارع في أن يقعد العاجز على شيء من هذه المذكورات وغيرها، وإن كان القعود على الأرض أكثرها وقوعاً، فلو جاء الحديث ناطقاً بالقعود على الأرض لم يكن مفهومُه معتبراً، أي: لم يفد نفي الحكم المثبت للمنطوق عمّا يضادّه من القعود على ما سوى الأرض؛ لأنّنا كنّا نحمله على أنّه خرج مخرج الغالب من الأحوال.
فغاية ما يقال في الصّلاة على الكرسيّ للعاجز عن القيام؛ أنه لم يكن أمراً معروفاً بين النّاس لقلّة الكراسي، وعدم احتياج النّاس إليها احتياجَهم في هذا الزّمان الذي غزت فيه حياتَنا المدنية التقاليدُ الأجنبية، فقد اعتاد أهل زماننا الجلوس على الكراسي والأرائك في البيوت وغيرها، وندر من يجلس على الأرض إلّا أهل البوادي والأرياف.
وبهذا يتبيّن أنّه لا يستقيم أن يقال: إنّ سكوت الشّارع عن هيئة الجلوس على الكراسي، في معرض البيان لهيئات المصلّي التابعة لأحوال استطاعته؛ دليلٌ على خروجها عن الهيئات المشروعة حتى كأنها بمنزلة من يصلّي مقعياً على قدميه.
وأمّا التشبّه بالنّصارى في الصلاة على الكراسي، فصحيح أنه تقرّر في ديننا أنّ مخالفة أهل الكتاب مقصود للشّارع، بعد أن كان النبي r في أوّل الأمر يتحرّى موافقتهم؛ لأنّ أهل الكتاب خير من أهل الشرك والوثنية، فلمّا تمّت النّعمة بكمال الدّين وبيان الشّريعة؛ استغنى عن تلك الموافقة وانقلب الخير في تحري المخالفة. وفي مسألتنا هذه لا يقال: إنّ في الصّلاة على الكراسيّ تشبُّهاً بالنّصارى وموافقةً لهم على الحقيقة؛ لأنّهم يفعلون ذلك أصالة واختياراً، ونحن يفعله بعضنا في أحوال الضّرورة، ألا ترى أننا نُهينا في صلاتنا عن هيئات فيها تشبّه بالبهائم، وإنما ذلك في حال الاختيار، أمّا لو اضطرّ أحدُنا إلى ذلك لارتفع عنه النهي.
ولأنّ المصلّي على الكرسي يفعل أفعالاً تخرجه عن التشبّه التام، كالركوع والسجود على الأرض أو من إيماء إن عجز. وقد لا يجلس على الكرسي في صلاته إلّا عند إرادة السجود، لعجزه عن فعله من جلوس على الأرض.
وأيضا: التشبه المنهيُّ عنه ليس مطلقا، بل مقيد بقيود منها:
  • النية: أي: بأن ينوي الفاعل التشبّه، أمّا الموافقة الظاهرة في الصورة بلا نية، فليست مشمولة بالنهي، لقول النبي : (إنّما الأعمال بالنيّات)، وللقاعدة الفقهية: الأمور بمقاصدها.
قال ابن عابدين في معرض الحديث عن التشبه بالكفّار: (أي: إنْ قَصَدَه، فإنّ التشبّه بهم لا يُكره في كلّ شيء، بل في المذموم، وفيما يُقصد به التشبّه) [حاشية ابن عابدين: 2/384].
  • أن يكون الفعل شعارًا للكفّار أو ممّا اختصّوا به في دينهم أو عاداتهم: فإن لم يكن شعارا لهم، ولا هو من خصوصياتهم؛ فلا يشمله النهي، قال ابن حجر في سياق الكلام على لبس الطيالسة: (وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون ‌الطيالسة ‌من ‌شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار داخلا في عموم المباح) [فتح الباري: 10/275]. ومعلوم أنّ الجلوس على الكراسي أصبح عادة عالمية، وليس مختصّا بالكفّار، ولا هو شعار لهم، على غرار عوائد كثيرة من الحياة المدنية المعاصرة.

خاتمة:

مع ما ذكرنا من التفصيل في حكم الصلاة على الكراسي؛ ننبه على الملحوظات الآتية:
  • الصلاة على الكراسي وإن صححناها في الجملة لمن عجز بعض الأركان، فإننا لا نراها كالصلاة على الأرض؛ لكونها أمراً محدثاً، ولأن اعتيادها يؤدي إلى استخفاف الجهلة بأمر الصلاة.
  • الصلاة على الأرض للعاجز أدنى إلى الخشوع والتذلل لله تعالى منها على الكراسي.
  • اعتياد الكراسي مدعاة إلى كثرتها في المساجد، وفي ذلك أذى ومضايقة، وقد يخرج الناس عن استعمالها للصلاة إلى الجلوس عليها للحديث حتى كأنهم في مقاه.
  • إذا كان ولا بدّ فلتوضع الكراسي في مؤخّر المسجد وعلى الجوانب حتى يكون المصلون عليها في أطراف الصفوف ولا يتخللونها فيحدثون خللاً وتضييقاً.
 

والله تعالى أعلى وأعلم