الاستشارة-17-: بيع جملة غير معلومة القدر من مغيّبات في الأرض، بتعيين سعر الوحدة منها

You are currently viewing الاستشارة-17-: بيع جملة غير معلومة القدر من مغيّبات في الأرض، بتعيين سعر الوحدة منها

الاستشارة-17-: بيع جملة غير معلومة القدر من مغيّبات في الأرض، بتعيين سعر الوحدة منها

مجال الاستشارة: الفقه [المعاملات المالية]

جوابا على السؤال الآتي:

السؤال: نحن مجموعة مزارعين نبيع البطاطا بالمساحة، فنبيع للتاجر البطاطا المغروسة في واحد هكتار من الأرض مثلا، على أن نقدّر قيمة الكيلو منها بثمن معيّن، مثل 30دج، بعد أن يعاين التاجر حبات من البطاطا في مواضع مختلفة من الأرض، ليتأكد من نوعية البطاطا المغروسة، وجودتها، يستخرج البطاطا المغروسة ضمن المساحة المعينة، ثم يزنها وزنًا مضبوطًا، ويدفع قيمتها بحسب الوزن، والسعر المتفق عليه، فهل هذا البيع جائز، أم لا؟

خلاصة الاستشارة:

البيع جائز وصحيح عند جماهير الفقهاء، مع التنبيه إلى بعض الشروط التي نلخّصها فيما يلي:
1. بدوّ صلاح الثمرة: ويُعرف صلاح الثمرة في المغيّبات باستقلال ورقها، وتمامه، والانتفاع منه، وأمن العاهة بحيث لا يفسد بالقلع.
2. رؤية بعضها: فيرى ظاهرها، ويقتلع عيّنات منها للرؤية، ولا يجتزئ برؤية الظاهر بدون قلع، كما لا يجتزئ بالصّفة عن النظر، إلاّ لضرورة، لأنّ النظر أبلغ في المعرفة من الصفة.
3. أن يحزر قدر المساحة المزروعة إجمالًا: لو اشتراها بالجزاف، وإذا باعها بتحديد سعر الوحدة، وأحالها على الوزن المضبوط، فهو أولى بالجواز.
4. أن يتمّ الوزن في وقت قريب من وقت التعاقد عرفًا، ولا يطول لزمن بعيد.
5. أن تكون مؤنة القلع والوزن على البائع، إلاّ لشرط أو عرف.

أولا: تكييف المسألة

بيع البطاطا على النحو المذكور في السؤال؛ يتضمّن ثلاثة فروع:
الأول: بيع الثمار المغيّبة في الأرض.
المغيّبات في الأرض هي النباتات التي يُقصَد منها أصولها، أي: جذورها المغروسة في الأرض، فهي غير ظاهرة، وإنّما يظهر أوراق النبتة، وسيقانها. وسواء كان المقصود منها الظاهر والمغيّب، مثل: البصل، والفجل، والكُرّاث، فإنّها يستفاد من ورقها، ومن أصولها، أو كان المقصود منها المغيّب فقط، كالبطاطا.
المسألة المطروحة على الهيئة من المزارعين؛ من هذا الباب؛ إذ لا يرى التاجر وقت العقد كلّ المحصول الذي هو مغيّب في الأرض، بل يرى عيّنات منه فقط.
ووجه الاستشكال في المسألة، أنّ هذا البيع ينافي – بحسب الظاهر- شرط المعلومية في المبيع؛ لأنّه مغيّبٌ في الأرض، فهل يُدخله ذلك في جهالة تمنع الجواز، أم إنّ الإحاطة بمساحته المزروع فيها، واستخراج بعضه لرؤيته، يخرجه من حيّز الجهالة؟ فهذا ما نبيّنه في الفقرة التالية.
الثاني: بيع جملةٍ غير معلومة القدر، على الكيل أو الوزن، مع تعيين سعر الوحدة منها.
تكلّم الفقهاء في هذه المسألة في فروع، منها: بيع صُبْرة ([1]) كلُّ قفيز منها بكذا، أو كلُّ صاع منها بكذا، وبيع غنم كلُّ شاة منها بكذا، وبيع ثوب كلُّ ذراع منه بكذا، وهكذا في كلّ جملة من جنس واحد؛ كلُّ وحدة كيلية منها، أو وزنية، أو ذرْعية، أو عددية، بكذا.
فالصُّبْرة جملةٌ غير معلومة المقدار حين العقد، وثمنها الجُمْلي غير معلوم، إلاّ أنّها بعد جريان الكيل أو الوزن فيها، مع بيان سعر الوحدة، تؤول إلى معلومية القدر والثمن على التحديد، وبيع البطاطا المغروسة ضمن مساحة معلومة، مطابق لهذا الفرع، لأنّ البطاطا المغروسة في تلك المساحة جملة مجهولة المقدار، لكنها تؤول إلى العلم بعد الوزن، فما حكم ذلك عند الفقهاء؟ هذا ما نبيّنه في الفقرة التالية.
الثالث: اشتراط القلع والوزن على المشتري.
كلّ ما يُباع على التقدير الوحدوي، من الكيل والوزن والذّرْع والعدّ، يثبت فيه حقّ التوفية للمشتري على البائع، بأن تكون التوفية بالكيل وغيره على البائع، ولا يبرأ من ضمانه حتى يوفّيه للمشتري. وفي واقعة السؤال أنّ من يتحمّل قلع البطاطا ووزنها هو المشتري، فهل يكون ذلك مقابل جزء من الثمن يضعه البائع عن المشتري، فيكون عمل المشتري في القلع والوزن من باب الإجارة على جزء من الثمن، وبذلك يجتمع البيع والإجارة في صفقة واحدة؟ أم إنّ المشتري يعمل ذلك متحمّلا لمؤنته، دون أن يُقتطع ذلك من ثمن المبيع؟ فما هو الصّحيح شرعًا، ومن عليه مؤنة التسليم، البائع أم المشتري؟ هذا ما نبيّنه في الفقرة التالية.

([1]) قال القاضي عياض: (الصُّبْرة من التمر، بضمّ الصّاد، وقَرَظٌ مَصْبور، وهو الشيء المجتمِع منه على الأرض، بعضه على بعض) [مشارق الأنوار: 2/38]، وقال: (والكومة: الصُّبْرة) [1/394].

مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم                                          

الفرع الأول: بيع الثمار المغيّبة في الأرض.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
الأول: عدم جواز هذا البيع.
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
– قال الشافعي: (كلّ ما كان من نبات الأرض؛ بعضُه مغيّبٌ فيها، وبعضُه ظاهرٌ، فأراد صاحبه بيعه؛ لم يجز بيع شيء منه إلاّ الظاهر منه، يُجزّ مكانه، فأمّا المغيّب فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الجزر، والفجل، والبصل، وما أشبهه، فيجوز أن يُباع ورقه الظّاهر مقطّعاً مكانه، ولا يجوز أن يباع ما في داخله) [الأم: 3/66].
– وقال ابن قدامة: (ولا يجوز بيعُ ما المقصودُ منه مستورٌ في الأرض، كالجزر، والفجل، والبصل، والثوم، حتّى يُقلَع، ويُشاهد) [المغني: 4/70].
وقال ابن حزم: (ولا يحلّ بيعُ شيءٍ مُغيَّب في غيره، ممّا غيّبه النّاس، إذا كان ممّا لم يره أحد، لا مع وعائه، ولا دونه … كالعسل، والسّمن في ظرفه، واللّبن كذلك، والبُرّ في وعائه، وغير ذلك كلّه: الجزر، والبصل، والكُرَّاث، والسَّلْجَم [=اللِّفت]، والفجل، قبل أن يقلع) [المحلّى: 7/290].
الثاني: جواز هذا البيع بشروط.
وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم.
– قال ابن نجيم نقلا عن القاضي خان: (وإن باع ما هو مغيّبٌ في الأرض، كالجزر، والبصل، وأصول الزعفران، والثوم، والشلجم، والفجل … فإن باع بعدما نبت نباتًا معلومًا، يُعلَم وجودُه تحت الأرض، يجوز البيع، ويكون مشتريًا شيئًا لم يره عند أبي حنيفة، ثم لا يبطل خياره ما لم ير الكلّ ويرضى به، وعلى قول صاحبيه لا يتوقّف خيار الرؤية على رؤية الكلّ، وعليه الفتوى) [البحر الرائق: 5/326].
– وقال القاضي عبد الوهّاب: (بيع الثمار بعد بدوّ صلاحها جائز مطلقاً، وبشرط التبقية والقطع … وكذلك الأصول المغيّبة في الأرض كالبصل والجزر والفجل) [التلقين: 2/147].
– ونقل ابن أبي زيد عن ابن المواز في كتابه عن مالك أنّه: (قال في الجزر واللّفت والفجل والثوم والبصل، إذا استبقل [كذا، وفي الشروح: استقلّ] ورقُه، وتمّ، وانتُفع به، ولم يكن ما يقلع منه فساد، جاز بيعه، إذا نظر إلى شيء منه، فإن وجد شيئًا مخالفا ردّه بحسابه) [النوادر والزيادات: 6/191].
– وقال الدردير: (ومُغيّب الأصل كالجزر، والبصل، والثوم، والفجل، واللفت، ويجوز بيعه بشرط رؤية ظاهره، وقلع شيء منه ويُرى، فإنّه يُعرف بذلك ولا يكون مجهولاً) [الشرح الكبير: 3/186].
– وقال المرداوي حاكيًا الرّواية الأخرى في مذهب الحنابلة: (وقيل: يصحّ، واختاره الشيخ تقيّ الدّين. وقال: اختاره بعض أصحابنا. واختاره في الفائق. قال في الرّعايتين: قلت: ويحتمل الصحّة، وله الخيار بعد قلعه) [الإنصاف: 4/302].
– وقال ابن تيمية: (وهذا القول الذي دلّت عليه أصول مالك، وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما: هو أصحّ الأقوال، وعليه يدلّ غالب معاملات السّلف، ولا يستقيم أمر النّاس في معاشهم إلاّ به، وكلّ من توسّع في تحريم ما يعتقده غرراً، فإنّه لا بدّ أن يضطرّ إلى إجازة ما حرّمه الله، فإمّا أن يخرج عن مذهبه الذي يقلّده في هذه المسألة، وإمّا أن يحتال) [مجموع الفتاوى: 29/45].
واشترط المالكية لصحّة هذا البيع ثلاثة شروط، وهي:
1- بدوّ صلاح الثمرة:
ويعرف صلاح الثمرة في المغيّبات باستقلال ورقها، وتمامه، والانتفاع منه، وأمن العاهة بحيث لا يفسد بالقلع، قال ابن عبد البرّ: (وجائز عند مالك -رحمه لله- شراء الفجل، والجزر، واللّفت، والثوم، والبصل، ونحو ذلك مغيّبًا في الأرض، إذا نظر إلى بعضه، وكان قد استقلّ ورقُه، وأُمِنَت العاهة فيه، وأكل منه، وإنما تؤمن العاهة عليه إذا كان ما قُلِع وقُطِع منه ليس بفساد، لطيبه، وانتهائه) [الكافي: 2/680]. وقال الباجي: (وأمّا الجزر واللّفت والفجل والثوم والبصل؛ فبدوّ صلاحه إذا استقلّ، وتمّ، وانتفع به، أو لم يكن في قلعه فساد) [المنتقى: 4/218].
2- رؤية بعضها:
فيرى ظاهرها، ويقلع عينة منها لمعاينة صفة الثمرة، ولا يجتزئ برؤية الظاهر بدون قلع، كما لا يجتزئ بالصّفة عن النظر، إلاّ لضرورة، لأن النظر أبلغ في المعرفة من الصفة [المقدّمات الممهّدات: 2/78].
3- أن يحزر قدرها إجمالًا:
بالقيراط، أو بالفدّان، أو بالقصبة([1])، ونحوها، ولا يجوز بيعه من غير حزر حتى لا يكون مجهولًا [الشرح الكبير: 3/186]. أي أن يعرف قدر المساحة إجمالا، وأنها كذا قيراط أو فدّان أو قصبة، أو بالوحدات المعاصرة: آر، وهكتار. وليس شرطا أن يصرّح بالقدر المحزور من الغلة.
مع التنبيه على أنّ البيع في واقعة السؤال ليس بالجزاف، بل بالجملة مع تحديد سعر الوحدة منها، فيؤول إلى الوزن المضبوط، وهو بذلك أولى بالجواز من البيع بالجزاف مع حزر القدر إجمالا، كما سيأتي بيانه.

([1]) القيراط: وحدة تقدير المساحات، استعملت في مصر والسودان، وهو جزء من أربعة وعشرين (24) جزءًا من الفدّان، والفدّان ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وكسورا (333.33) قصبة مربعة، أي أنّ ألف قصبة مربعة هي ثلاثة فدادين، والقصبة قدّرها عبد الله باشا فكري في كتابه: «الفوائد الفكرية للمكاتب المصرية»: (3.55) مترًا. ومنذ تطبيق وحدة «اليارد» في 1 يوليو عام 1959م، أصبحت تساوي (5.0292) أمتار بالضبط.
أدلة العلماء في هذا الفرع:
استدلّ المانعون بما يلي:
– قالوا بيع المغيّبات هو من بيع الغرر، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر.
– وبأنّه من بيع المجهول، والجهالة مبطلة للعقد.
ورُدَّ بأنّ:
– تقدير الجهالة والغرر شأن أهل الخبرة، لا شأن الفقيه، وأهل الخبرة يقولون: لا غرر ههنا، قال ابن القيّم: (وقول القائل هذا غرر ومجهول، فهذا ليس حظّ الفقيه، ولا هو من شأنه، وإنّما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإنْ عدُّوه قماراً أو غرراً فهم أعلم بذلك) [إعلام الموقّعين: 4/4].
واستدلّ المجيزون بما يلي:
النص بطريق المفهوم على جواز بيع المغيبات:
ومن ذلك بيع الحبّ في أكمامه حين يشتدّ أو يبيضّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيضّ، ويأمن العاهة» نهى البائع والمشتري. [مسلم: 1535].
فمفهوم الغاية، جواز بيع الحبّ في أكمامه بعد الشدّة والبياض؛ لأنّ حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وهذا مفهومٌ إن لم يُستفَد لا يكون للقيد (حتّى يبيضّ) معنًى، إذ إنّ بيع الحبّ بعد فركه معلوم الجواز دون حاجة لهذا القيد، والأصل في كلام الشّارع حمله على الإفادة.
قال ابن رشد: (وهذا الحديث أيضًا حُجّة في بيع الجزر والفجل وما أشبه ممّا هو مغيّبٌ تحت الأرض، لأنّه يُقلَع منه شيءٌ فيُستدلّ به على بقيته، ويُستدلّ عليه أيضًا بفروعه) [المقدّمات الممهّدات: 2/78].
الجهالة ترتفع برؤية بعضه:
وذلك لكونه متماثلاً، فيُستدلّ بالمرئي منه على الباقي. وقد نصّوا على صحّة بيع المثلي برؤية بعض أجزائه، قال الدردير: (وجاز البيع برؤية بعض المثلي من مكيل كقمح، وموزون كقطن وكتّان) [الشرح الكبير: 3/24]. ونقل الموّاق عن ابن عرفة: (رؤية بعض المثلي ككُلّه) [التاج والإكليل: 6/114].
أضف إلى ذلك ثبوت الخيار فيما خرج على خلاف ما رُؤي إذا كان ذا بال، وإمضاء العقد فيما لم يخالف، وليس في ذلك تفريقاً للصفقة على البائع، هذا عند المالكية، وأمّا الحنفية فعلى أصلهم في إثبات خيار الرؤية بالشّرع فيما بِيع على غير رؤية، يكون الخيار ثابتاً عندهم سواء اتّفقت الصّفة مع العيّنة المرئية قبل الشّراء أو لا، حتى تكتمل المعاينة عند الإمام أبي حنيفة، وبمعاينة قدر معلوم عند الصّاحبين.
يسير الجهالة مغتفر:
ما يحتمل مجيئه على خلاف العادة في التماثل، يكون في الغالب يسيرا، واليسير مغتفر، وأمّا الكثير فللمشتري ردّه بالعيب.
رفع الحرج، ومراعاة حاجة الناس:
قال ابن تيمية: (إنّ هذا ممّا تمسّ حاجة النّاس إلى بيعه؛ فإنّه إذا لم يُبَع حتّى يُقلَع حصل على أصحابه ضررٌ عظيم، فإنّه قد يتعذّر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه، وإن قلعوه جملةً فسد بالقلع) [مجموع الفتاوى: 29/36]. وقال: (ما احتيج إلى بيعه فإنّه يوسّع فيه ما لا يوسّع في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب الخاص، كما أرخص في بيع العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة، ولم يجعل ذلك من المزابنة التي نهي عنها) [مجموع الفتاوى: 29/488].
الأقيسة، ومنها:
* القياس على بيع ثمار الأشجار إذا بدا بعض صلاحها، فهو جائز بالإجماع.
* القياس على بيع المباني والحيطان وإن لم تعلم أساساتها ودواخلها.
* القياس على بيع الرمان، والجوز، وما كان مأكوله في جوفه، فإذا جاز بيعه، وهو مستتر لا يمكن رؤيته، جاز بيع الشيء قبل رؤيته.
الفرع الثاني: بيع جملةٍ غير معلومة القدر، على الكيل أو الوزن، مع تعيين سعر الوحدة منها.
اختلف الفقهاء في هذه الفرع على ثلاثة أقوال، وهي:
الأول: بطلان هذا البيع.
وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وقول بعض الشافعية، ومذهب الظاهرية.
– قال ابن رشد: (مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة الذي لا يجيز شراء الصُّبْرة على الكيل، كلّ قفيز بدرهم) [المقدّمات الممهّدات: 2/64].
– وقال النووي في هذا الفرع: (حكى الدّارمي والرّافعي وجهًا لأبي الحسين بن القطّان أنّه لا يصحّ البيع في شيء من ذلك، وهذا شاذٌّ ضعيف) [المجموع: 9/313].
– وقال ابن حزم: (ولا يحلّ بيع جملة مجهولة القدر على أنّ كلّ صاع منها بدرهم، أو كلّ رطل منها بدرهم، أو كلّ ذراع منها بدرهم، أو كلّ أصل منها، أو كلّ واحد منها بكذا وكذا، وهكذا في جميع المقادير والأعداد) [المحلّى: 7/508].
الثاني: يصحّ في وِحْدة منها (أي: مقدار وحدة التقدير المتفق عليها، كالقفيز والكيلو).
ويوقف البيع في الباقي إلى أن تزول الجهالة في مجلس العقد بأحد أمرين: إما بتسمية جملة القفزان، أو بكيلها في المجلس، إذ إنّ ساعات المجلس بمنزلة ساعة واحدة. فإن علم مقدار الصبرة بعد انتهاء المجلس، تقرر فساد البيع، فلا ينقلب صحيحاً بعدئذ. وهو مذهب أبي حنيفة. [العناية شرح الهداية: 6/267].
الثالث: صحّة هذا البيع.
وهو مذهب الجمهور: الصاحبان من الحنفية، والمالكية، وجمهور الشافعية، والحنابلة.
– قال السرخسي: (فإذا اشترى صُبْرةً من حنطة؛ كلّ قفيز بدرهم، عند أبي حنيفة يجوز العقد في قفيز واحد، وعندهما يجوز في الكلّ) [المبسوط: 13/5].
– وقال خليل: (وجاز … وصاعٍ أو كُلَّ صاعٍ من صُبْرةٍ وإنْ جُهِلَتْ، لا منها)، قال الخرشي: (يعني أنّه يجوز بيع عدد آصُعٍ من صُبْرة معلومة الصّيعان أو مجهولتها، وكذا شراء كلّ صاع بكذا من هذه الصُّبرة، والمشترى جميعها، سواء كانت معلومة الصّيعان أو مجهولتها، على المذهب) [شرح الخرشي: 5/25].
– وقال النووي: (ولو قال بعتك هذه الصُّبْرة؛ كلّ قفيز بدرهم، أو هذا الثوب؛ كلّ ذراع بدرهم، أو هذه الأغنام؛ كلّ شاة بدرهم:- صحّ البيع في الجميع كما ذكرنا، ولا تضرّ جهالة جملة الثمن؛ لأنّ الثمن معلوم التفصيل، والمبيع معلوم بالمشاهدة، فانتفى الغرر، هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب في طرقهم) [المجموع: 9/313].
– وقال ابن قدامة: (وإذا اشترى صُبْرَةً على أنّ كلّ مكيلة منها بشيء معلوم: جاز، وجملة ذلك، أنّه إذا قال: بعتك هذه الصُّبْرة كلّ قَفِيز منها بدرهم: صحّ، وإن لم يعْلَمَا مقدار ذلك حال العقد) [المغني: 4/97].
أدلة العلماء في هذا الفرع:
دليل المانعين:
قالوا: لأنه لا يُعلم مبلغ الثمن والمثمن حال العقد، وإنّما يُعلم بعد الكيل، والمعتبر هو وقت العقد، لا بعده، فهي جهالة مبطلة للعقد.
واستدلّ أبو حنيفة: بأنّ البائع يطلب تسليم الثمن أولا، والثمن غير معلوم، فيقع النزاع.
وردّ بأنّ:
– ما قارب الشيء أعطي حكمه، فالعلم بالمبيع بالتفصيل في زمن يقارب وقت التعاقد، كالعلم به حين التعاقد، لا سيما مع الحاجة إلى المعاملة، وجريان العرف بها.
– أمّا من عليه التسليم أولا، فالجمهور أنّ البيع إذا كان عينًا بعين، واختلفا فيمن يسلّم أوّلا، يجب على العاقدين التسليم معًا؛ إذْ ليس أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، فيُجعل بينهما عدلٌ يقبض من كلّ منهما ويسلّم الآخر.
أدلة المجيزين:
الجهالة الآيلة إلى العلم غير مؤثرة ([1]):
وذلك أنّ جملة المبيع معلومةٌ بالإشارة إليها، ومشاهدتها، والمغيّب المثلي رؤية بعضه كرؤية كلّه كما سبق ذكره، وثمن كلّ جزء معلوم من المبيع معلوم، فيبقى العلم بالتفصيل، قد أُحيل على الوزن، فآل إلى تمام العلم. قال الدردير: (وبخلاف صاع من هذه الصُّبْرة بكذا، أو كلّ صاع من صُبْرة معيّنة، وأريد بيع الجميع؛ لأنّ الجهل وإن تعلّق بجملة الثمن ابتداءً، لكن يُعلَم تفصيله بالكيل، فاغتُفر) [الشرح الصغير: 3/34].
الجهالة التي إزالتها بيد المتعاقدين غير مؤثرة:
أي: باعتبار أنّ العاقدين تضرّهما الجهالة، وتفضي بهما إلى النزاع، فمتى قدرا على رفعها، فإنّهما يرفعانها لا محالة، تحصيلاً لمصلحة العقد. قال المرغيناني: (ولهما [أي للصّاحبين خلافًا لأبي حنيفة] أنّ الجهالة بيدهما إزالتُها، ومثلها غير مانع) [الهداية، مع شرحها العناية: 6/268].
الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة غير مؤثرة:
وهذا ضابطٌ صرّح به الحنفية، قال الكاساني: (الجهالة لا تمنع صحّة العقد لعينها، بل لإفضائها إلى المنازعة) [بدائع الصنائع: 4/194]. وقال ابن الهمام: (قد تقرّر عندهم أنّ الجهالة المفسدة للعقد إنّما هي الجهالة المفضية إلى النّزاع دون مطلق الجهالة) [فتح القدير: 9/95]. وإذا كان كذلك؛ فإنّ المعاملة المذكورة قد جرى بها عرف التّجار والمزارعين، ومضوا على عدم التنازع فيها.
الأقيسة: ومنها:
القياس على بيع الجزاف بطريق الأولوية:
أجاز الفقهاء بيع المغيّب جزافا إذا رؤي بعضُه وكان مثلياً، ومن ذلك قول خليل في: [ما يجوز في الجزاف]: (وجاز برؤية بعض المثلي)([2]).
قال الحطّاب: (ليس هذا خاصًّا بالمكيل، وكذلك في الجزاف؛ يكفي رؤية البعض إذا كان الجميع حاضرًا في غِرَارة أو نحوها، بل جعله البِسَاطيُّ راجعًا لمسألة الجزاف. نعم يكفي رؤية بعض المثليّ المكيل، سواءً كان حاضراً بالبلد أو غائباً) [مواهب الجليل: 4/293].
وتجويز الجزاف في هذه الحالة، أي الثّمار المغيّبة في الأرض بأصل الخلقة، رخصة في شرط المعلومية، كأصله؛ أي أصل البيع بالجزاف. فإذا جاز التبايع على الظنّ والتخمين، في الجملة، بالنظر إلى المساحة أو حدِّها بقدر معلوم، وإلى صفوف المزروع والتباعد بين حفرها، للوقوف بذلك على القدر التقريبي للثمر المخبّأ، فلأن يجوز التبايع على معرفة القدر على الحقيقة والتفصيل للجملة، أولى وأحرى؛ إذْ في الحالة الأولى الجزافية، يدخل المتبايعان على أن يكون مبلغ الثمرة دائراً حول مائة قنطار مثلاً، فيُجعل ثمنه مائة ألف دينار مثلاً، جملةً، وفي الحالة الثانية يدخلان على أن يكون المبلغ المبيع من الثمرة تسعين قنطاراً مثلاً، بالضبط، فيخرج ثمنه من تسعير وحدة الوزن تسعين ألفاً، مثلاً. فلا غرر ولا جهالة مطلقاً.
بينما البيع جزافا يحتمل الزيادة والنقص عمّا حُزر، أمّا واقعة السؤال فالوزن فيها يعرف بالضبط لا بالحزر، فهي أولى بالجواز.
القياس على المرابحة:
فيما لو قال: بعتكه برأس مالي فيه، وهو كذا وكذا، والربح درهمٌ في كلّ عشرة، فإنّه يصحّ، ولا يُعرف الرّبح إلاّ بالعدّ. وفيما لو باع ما رأسُ ماله اثنان وسبعون مرابحة، لكلّ ثلاثة عشر درهماً درهم، فإنّه كذلك لا يُعلم في الحال، وإنّما يُعلم بالحساب. وهذا قياسٌ قويٌّ لإجماعهم على المرابحة.
القياس على ما لو أكراه الدار، كلّ شهر بدرهم:
أو استأجره على عمل، كالاستقاء، كلّ دلو بتمرة، وقد رُوي عن عليّ رضي الله عنه: «أنّه آجر نفسه كلّ دلو بتمرة، وجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتمر» [الترمذي: 2473، ابن ماجه: 2446، البيهقي: 11649، الضياء المقدسي: 717].
الفرع الثالث: من عليه مؤنة القلع والوزن؟
كلّ ما بِيع من المنقولات على التقدير بوحدة قياسية من كيل أو وزن أو ذرْع أو عدّ، فمؤنة التمييز والتقدير على البائع، ولا يبرأ من الضّمان إلاّ بتمام الفرز، لما عليه من حقّ التوفية للمشتري.
وفي المقابل؛ فإنّ مؤنة كيل الثمن، أو وزنه، أو ذرعه، أو عدّه، إذا احتاج إلى مؤنة؛ تكون على المشتري، لأنّه يحتاج إلى تسليم الثمن وتمييز صفته، فكانت مؤنته عليه.
وبناءً عليه؛ فما يكون في واقعة السؤال من تولّي المشتري القلع والوزن بنفسه؛ لا يخلو من أن يكون ذلك بناءً على عرف تعاملي قائم، أو اشتراط من البائع، أو بمبادرة منه من غير استناد إلى شرط ولا عرف:
– فإن كان باشتراط من البائع، صحّ ولزم؛ لجواز اجتماع البيع والإجارة في عقد واحد لتوافقهما في المعنى والمقصود، فالإجارة بيع للمنافع.
قال الدردير: (تفسد الإجارة إذا وقعت مع جُعْلٍ صفقةً واحدةً، لتنافرهما، لما في الجُعْل من عدم لزومه بالعقد، وجواز الغرر، وعدم الأجل، بخلاف الإجارة. لا مع بيع صفقةً واحدةً، فلا تفسد لعدم منافاتهما) [الشرح الكبير: 4/5].
وقال الشيخ محمد علي بن حسين المالكي المكي: (وأمّا نحو الإجارة والهبة ممّا يماثل البيع في الأحكام والشروط ولا يضادّه فيه، فإنّه يجوز اجتماعه مع البيع، كما يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر في عقد واحد، لعدم التنافي، فهذا وجه الفرق) [تهذيب الفروق: 3/178].
وسواءً اتّفقا على أجرة مستقلّة يدفعها البائع للمشتري، أو يقاصُّه بها من الثّمن الكلّي، أو كان بغير تسمية أجرة مستقلّة، وحينئذ تكون الأجرة مندمجةً في الثمن، كما لو عدّ عليه «الكيلو» بثلاثين ديناراً مع القلع والوزن، فيصير كأنّه عدّ عليه الثمن بثمانية وعشرين، والقلع والوزن بدينارين. فيصحّ العقد بهذه الصفة، ولو لم يُفرد الإجارة بما يخصّها من العوض، وهو كما لو باعه ثوبين مختلفين بدينار، فإنّ كلّ ثوب تنوبه حصّة من الثمن من غير تعيين، ولا خلاف في جوازه، فكذلك إذا كان الدينار في ثوب مع خياطته أو قصارته.
– وإن كان على عرف تعاملي قائم، لم يتفق العاقدان على خلافه: جاز؛ لأنّ قاعدة الفقهاء «أنّ المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً».
– وإن خلا عمل المشتري عن الشّرط والعرف جميعاً، احتمل أن لا يستحقّ شيئاً؛ جرياً على قاعدة من عمل عملاً نافعاً لغيره بغير إذنه، لدلالة تعرّي العمل عن الشّرط على القصد إلى التبرّع. واحتمل أن يستحقّ الأجرة على البائع، وهو الأرجح في النظر؛ لأنّ التوفية مستحَقٌّة له على البائع بحكم الشّرع، فلا خيار له في تركها، ولأنّ القصد إلى التبرّع في هذا بعيد لتبعيته للعقد.
قال الدسوقي: (وانظر لو تولّى المشتري الكيل، أو الوزن، أو العدّ بنفسه، هل طلب البائع بأجرة ذلك أم لا؟ والظاهر -كما قال شيخنا- أنّ له الأجرة إذا كان شأنه ذلك، أو سأله البائع في ذلك) [حاشية الدسوقي: 3/144].

([1]) انظر: «الجهالة الآيلة للعلم»، لعبد الله بن راشد الفضلي، وضوابط كونها غير مؤثرة في صحة العقد، ومنها: أن تؤول إلى العلم بمعيار ثابت منضبط لا يتعلق بأحد العاقدين. وأن تؤول إلى العلم وقت العقد أو قريبا منه. وأن تكون يسيرة لا فاحشة. وأن تدعو إلى اغتفارها حاجة.

الرأي المختار في المسألة             

انتهى قول الهيئة إلى البنود الآتية:
الأوّل: المختار عند الهيئة تجويز بيع الأصول المغيّبة في الأرض من الثّمار وغيرها، كجذور قصب السّكر، على وفق ما شرط المالكية من الإحاطة بالمزارع، ورؤية نبات الثمرة وعيّنة منها، وظهور علامة بدوّ الصلاح التي هي شرطٌ في بيع جميع أنواع الثمار.
الثاني: يكون العقد لازماً للمشتري بعد الإبرام، لا يجوز له التراجع فيه، سواء وجد في الغلّة ما ظنّه من القدر وافياً أو ناقصاً، ما دام غير مضمون له من البائع، إلاّ أن يجد بعض الثمرة على خلاف ما رأى، فله الفسخ في القدر المخالف فقط، إذا كان كثيراً، لا يسيراً.
الثالث: إذا بِيعت الغلّة على تقدير الجملة بوحدة وزنية من الكيلو ونحوه، وعلى تحديد سعرها، فالمختار للهيئة الجواز، وفقاً لما عليه جماهير الفقهاء في جواز البيع في المغيّب على وزنه والمحاسبة على الوحدة الوزنية، ولما ذكرناه من القواعد والأقيسة المشتملة بالقوة على هذا الفرع.
الرابع: المختار للهيئة جواز تولّي المشتري القلع والوزن، من غير اتفاق على أجرة منفردة بذلك، سواء كانت توليته بشرط أو عرف، وإذا خلت منهما جاز له المطالبة بالأجرة بالمعروف، على الأظهر.
والله أعلم وبه التوفيق

   

أعضاء الهيئة الموقعون على الاستشارة

الشيخ لخضر الزاوي // أد. عبد الـحقّ حـميش // أد. عبد القادر داودي // أد. مـخـتـــار حـمحــامي // أ. مـحـمّد ســكحـــال // أ. سـمـير كـــيــجـــاور // أد. يونس صوالـحي // د. عبد العزيز بن سايب // أد. عبد القادر جدي // د.مـحــمّــد هــنــدو // أد. مــاحــي قــنـدوز