إنّ الانسان هو محور أيّ نهضة حضارية، لأنّ صناعة التاريخ فعل إنساني، فإذا أردنا أن نحقّق نهضةً ينبغي أن ننتبه إلى عنصر الانسان باعتباره العنصر المحوري في أيّ عملية تنمية وبناء حضاري. والإنسان باعتباره عنصراً محوريًّا فإنّه – كما يقول مالك بن نبي- يؤثّر في التاريخ بفكره وبعمله وبماله، ولكنّ الحقيقة أيضًا أنّ الفكر هو من يقود العمل والمال، ولهذا فإنّ الاهتمام بالإنسان معناه الاهتمام ببناء وعيه وفكره. وهذا يتطلّب الاهتمام بالعلم، لأنّنا بالعلم فقط نستطيع أن نبني هذا الوعي، وصياغة البنى الفكرية التي توجّه العمل والمال، وتجعل أبعاد تأثير الإنسان تتكامل، وتتوجّه لبناء نهضة حضارية.
ولكن يُثار إشكالٌ يتعلّق بالعلم ذاته، وبمدلولات العلم في عصرنا الحديث، ممّا يثير نوعًا من الاضطراب، نراه متجسّدًا في برامجنا التعليمية، وفي مؤسّساتنا العلمية والبحثية، وفي توجّهات صانع القرار العلمي بوجهٍ خاصّ، وبكلّ القرارات المتعلّقة بالمجتمع، فكيف ذلك؟
إن نظرنا إلى مفهوم العلم مثلا، فإنّنا نجده من المفاهيم الرئيسة في البحوث والدراسات المعاصرة؛ وبخاصة مع الجدل المستمرّ في حصر مفهوم العلم في علوم الطبيعة وما نشأ عنها وعن نموذجها، أو ما يمكن تسميته بالجانب التجريبي في العلم.
وهذ يدفعنا إلى ملاحظة ذلك الاستبعاد من وصف العلمية لمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والشّرعية (الدينية)، باعتبار أنّ معظمها لا يخضع للتجربة والدراسة (الإمبيريقية)، باعتبار أنّ مقياس العلمية صار في العصر الحديث هو معيار العلم التجريبي.
ومعلومٌ أنّ هذا التضييق لمفهوم العلم، وهذا الاستبعاد لمجالات علمية كثيرة من وصف العلمية بسبب عدم خضوعها للتجربة، كلّه منتجٌ ثقافي نتج في سياق تطوّر تاريخي وحضاري، وخبرة غربية أوروبية تحاول أن تعمّم نموذجها على العالم، وتختزل مفهوم العلم في تضييقاتها الفلسفية والفكرية وتجربتها الحضارية الخاصّة.
لكن بفعل الإشعاع العالمي للحضارة الغربية؛ فقد أدخلتنا في صندوقها، وصرنا نفكّر من داخلها؛ سواءً ضمن ما أضافته للحضارة والمعرفة الإنسانية من قيمة إيجابية، أو ما جلبت عليه من فوضاها وإخفاقاتها واختزالاتها.
ولعلّ هذا نلاحظه في جامعاتنا ومناهجنا ومؤسّساتنا، ولدى صنّاع المعرفة والقرار عندنا. فقد سادت نظرةٌ قاصرةٌ للعلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الشرعية، وصار يتبنّاها كثيرٌ من قادة الأمة في عالمنا الإسلامي، بفعل الهوس بالتحديث التكنولوجي والتقني، ومركزية العقلية العلمية بمعناها التقني. فصار كثيرٌ من القادة والسياسيين وأصحاب القرار في مستويات مختلفة يرون أنّ مشكلتنا تقنية بحتة، وصاروا يعطون أولوية كبيرة للعلوم التقنية والتكنولوجية والطبيعية؛ أي علوم المادة عمومًا، بينما يتمّ تجاهل العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، سواء بحسن نية أو بسوئها.
وتكمن المشكلة الخطيرة في أنّ معظم من يتولّى القرار في جامعاتنا ومؤسّساتنا ومراكز القرار فينا؛ لهم خلفية علمية تقنية بمفهومها الاختزالي الذي أنتجته الحضارة الغربية ونموذجها المعرفي، ويكاد أغلبهم يجهل تماما ثراء وتنوع وأهمية وحيوية العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، ولهذا يعطونها هامشا ضئيلا في تفكيرهم وفي قراراتهم.
بل تراهم يتعسّفون في قرارات خطيرة تجاه هذا المجال الحيوي، بحجّة أنّ هذه العلوم هي علوم كلام فقط وليس فيها منجزات تطبيقية، أو أنّها لا تنتج، وغير مثمرة مثل العلوم التقنية، أو أنها علوم متأخرة تحتاج أن تواكب العلوم الطبيعية والتقنية.
وهذه وجهة نظر خطيرة جدًّا؛ لأنّها سطحية وغير علمية وغير منصفة، لأنّ المقارنة بين العلوم التقنية وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية مقارنة ظالمة، تجعل من العلوم التقنية هي المركز والباقي هامش.
كما أنها وجهة نظر تتجاهل أنّ العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية هي علوم تبني الإنسان، وتبني الوعي وتشكّل الذهنيات، بينما العلوم التقنية تشتغل على المادة والآلة، ولا علاقة لها بالوعي، إلاّ بمقدار أثر منتجاتها على الإنسان، بل إنّ الإنسان بوعيه هو من يصنع تلك الآلات.
ولهذا فإنّنا ما دمنا نزدري العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، ولا نعطي لها أولوية، ولا نهتم بها، ولا نعطيها حقها من البرامج والعناية والتخطيط والبرمجة فإنّنا سنبقى ننتج إنسانًا مشتّتا، ووعيًا مضطربًا ملحقا بعلوم المادة لوحدها.
والنّاظر في كيفية صياغة برامج هذه العلوم، وكيف يتحكّم التقني في الإنساني والاجتماعي والشّرعي يعطيك البرهان على أنّ عملاً كبيراً، ينبغي أن نقوم به لتثقيف التقنيين بأهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية والشّرعية، وحيويتها في صناعة وعي الإنسان وفكره، وبوعي الإنسان وفكره فقط يستطيع الإنسان أن يستعيد للتقنية وظيفتها، ويستعملها في التنمية الحضارية، وليس في تكديس منتجات وتقليدها.
شارك المنشور على
Share this content