المتفوقون في الباكالوريا.. بين فتنة الأضواء وأمانة الاستخلاف

You are currently viewing المتفوقون في الباكالوريا.. بين فتنة الأضواء وأمانة الاستخلاف

المتفوقون في الباكالوريا.. بين فتنة الأضواء وأمانة الاستخلاف

المتفوقون في الباكالوريا.. بين فتنة الأضواء وأمانة الاستخلاف

في السنوات الأخيرة، تحوَّل المتفوقون في شهادة الباكالوريا إلى محور اهتمامٍ مبالغٍ فيه، تجاوز حدود التشجيع الطبيعي إلى حالة من “الافتراس الإعلامي” فدُفع بهم إلى فضاءات السوشيال ميديا وهم في عمر الزهور، حيث الأضواء الكاشفة التى ليست دائمًا نوراً، بل قد تكون نارًا تحرق من لا يحسن السير في شعابها.

فقديماً قال الحكماء: “الويل لمن أشارت إليه الأصابع ولو في الخير”، لأن الأعين ليست سواء، فمنها العين الرحيمة التي تُبارك، ومنها العين المريضة التي تحسد وتُفسد وترصد، والخشية اليوم ليست فقط من الأعين الحاسدة، بل من “الأنظمة الثقافية” التي تصنع من التفوق سلعة استهلاكية، ومن النبوغ أداة للترويج الزائف.

ويخشى على هؤلاء الفتيان، أن تُغريهم أمواج الغرور، فينسوا الهدف الأسمى الذي من أجله كُرِّموا، فما التكريم الحقيقي إلا في دوام السعي، لا في التوقف عند جدران الامتحان. إنّ تفوقهم الأهم ليس في شهاداتٍ معلقة، بل في مشاريع علمية، واختراعات مبهرة، وأبحاث عميقة تجعلهم من صنّاع الحضارة، ورواد الاكتشافات، فيعودون بها إلى أوطانهم فاتحين في تخصصاتهم.

فلْنتذكر أن علامات الامتحانات قد تتوهج أحيانًا بوهج الحظ، وأن من بين أصحاب العلامات المتوسطة من يحمل عبقريةً تفيض عن أقرانه أضعافًا مضاعفة، فالمقاييس الرقمية لا تزن العقول النادرة بميزانها الصحيح.

لهذا… على أولياء هؤلاء، وعلى المربين وأصحاب القرار، أن يُحسنوا رعايتهم ومرافقتهم، وأن يحمُوهم من غوغاء المبالغات، ومن تجار الشهرة، ومن الذئاب البشرية التي تتلون بألوان “الرعاية” لتفتك بالأرواح النقية في لحظة ضعفٍ عابرة قد تصل بهم إلى التطرف.

فالتيارات المنحرفة، من كل مشرب واتجاه، تتربص بمثل هؤلاء لتنحرف بمسار عقولهم وتُفرغ تفوقهم من محتواه الرسالي، وهذا زمن صارت فيه شهوة الظهور أسرع من نضج العقل، وأقوى من سلطان التربية.

رسالتي إليهم

اقضوا حوائجكم بالسر والكتمان، فالأعمال العظيمة لا تنبت في ضوضاء الإعلام، بل في صمت المختبر، وخشوع العالم بين دفاتر أبحاثه، وتعلّموا أن العلم لا يُطلب بالشغف وحده، بل يُلتمَس مع السكينة والوقار، لأن المعرفة التي لا تُهذب النفس، تكون لعنة على صاحبها…

إياكم والغرور… فإن الغرور سمٌّ قاتلٌ، يطفئ نور البصيرة، ويحجب عن صاحبه أبواب الفهم العميق. واعلموا أنكم ما كُرّمتم إلا لتُكلَّفوا، وما رُفعتم إلا لتحملوا أمانة أعظم، أمانة الاستخلاف في الأرض بصدقٍ وتجرد، وخدمة أوطانكم وأمتكم بوعيٍ وتواضع…

تذكّروا أنه مهما بلغتم من درجات العلم، فأنتم في ميدان المعرفة نقطة في محيط، وفوق كل ذي علم عليم. تلك هي قناعة الكبار من علماء الأمة، فقد قال الإمام الشافعي: “كلما تعلمت علماً ازددت علماً بجهلي”. فاحذروا أن تكونوا عباقرة في تخصصاتكم، سطحيين في رؤيتكم للحياة.

واحذروا من شهوة حب الظهور، وأنتم في عمر الزهور، فإنها شهوة خفية، تُقصم ظهور الرجال قبل أن تكتمل قاماتهم، وتُبدّل النيّات، وتحرف البوصلة عن المقاصد العظيمة. واعلموا أن أعظم ظهورٍ لكم، هو أن تظهر آثاركم قبل أسمائكم، وتُخلَّد أعمالكم قبل صوركم.

فإن أردتم المجد، فالمجد يُنتزع في محراب الصمت والكدح، لا في زحام اللايكات والهاشتاغات. ولتعلموا أن التفوق مسؤوليةٌ ثقيلة، والعلم أمانة، والظهور المبكر ابتلاء، فمن صان علمه لله رفعه الله به، ومن جعله سلعة للناس، طُمس عليه، وكان من الخاسرين.

وتذكروا قول رب العالمين: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ صدق الله العظيم.

واقع يتحدث وقلم يكتب
الإثنين 03 صفر 1447 هـ الموافق لـ 28 جويلية 2025 م على الساعة 05:43
فتحي طراح