مـمّا نعاه الله تعالى على اليهود من صور تديّنهم المغشوش وانحرافاتهم العجيبة إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض! قال الحقّ سبحانه: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ) [البقرة: 85]، وتوّعدهم على ذلك وعيدًا شديدًا: (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85]، وسرّ هذا الانحراف العجيب والكفر الغريب بيّنته الآية التي أعقبت ما سبق: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة: 86]، فكلّ من يبيع دينه ويحكّم هواه في أحكام الدّين، فيقبل ما وافق هواه ويردّ ما خالفه أو يتحايل عليه إنّـما حسم أمره، فاختار الدنيا الفانية العاجلة على الآخرة الباقية الآجلة، وما عند الناس على ما عند الله تعالى!
وهكذا حال الذين باعوا فلسطين والقدس والمسجد الأقصى من الحكّام والأمراء خيانةً وتخاذلا، ومن شايعهم من المفكّرين والعلماء تسويغًا وتأصيلا، فهؤلاء قد اختاروا دفء أحضان الصّهاينة والأمريكان على حرارة العزّة في قلوب الرّجال! واختاروا الرّفاه الاقتصادي الموعود على كرامة الحرية والشهامة، واختاروا رضى دول الاستكبار العالميّ على رضى الله جلّ في علاه، واختاروا -بدعوى المصلحة الواقعية- المحافظة على عروشهم الهشّة آنيّا على بقاء أمجادهم تاريخيّا.
وليس هذا بغريب من ذوي النّفوس الضّئيلة والعقول العليلة، وقد علّق سيد قطب -رحمه الله تعالى- على هذه الآية تعليقا دقيقا، فقال: «وهي خطّة من لا يثق بالله، ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كلّه على الدّهاء، ومواثيق الأرض، والاستنصار بالعباد لا بربّ العباد. والإيمانُ يحرّم على أهله الدّخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربّهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة إلّا في اتباع دينهم، ولا وقاية إلّا بحفظ عهدهم مع ربّهم» [في ظلال القرآن: ج1، ص88].
نذكر هذا الكلام ونحن نتفيأ ظلال ذكرى الإسراء والمعراج، التي يرى كثير من العلماء أنّها كانت في ليلة السّابع والعشرين من شهر رجب، السنة العاشرة من النّبوة، والخلاف في توقيتها مشهور، ولا يهمّنا هنا صحّته، ولا تحقيق القول فيه، فلذلك مجاله ومقامه، وإنّما يهمّني استغلال المناسبة للتذكير بهذا المعنى الجليل الذي أبسط الكلام عليه هنا، وهو أنّ المسجد الأقصى وفلسطين هما عقيدة قرآنية، حتى أنّ فلسطين لم تُذكر في القرآن بالاسم بل ذُكرت بالوصف، وأيّ وصف؟! وما أعظمه من وصف! فالقرآن العظيم كما هو معلوم لا يسمّي فلسطين إلّا الأرضَ المباركة، قال الحقّ جلّ جلاله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ)[الأعراف: 137]، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 71]، (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [الأنبياء: 81]، وقال جلّ في علاه في خصوص المسجد الأقصى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]، قال العلامة الطّاهر بن عاشور -رحمه الله-: «وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة {حَوْلَهُ} [وحول الأقصى فلسطين]. منها: أنّ واضعَه إبراهيمُ عليه السلام، ومنها: ما لحقه من البركة بمن صلّى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرّسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أنّ قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى. وأعظم تلك البركات حلول النّبيء صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلّهم» [التحرير والتنوير: ج15، ص20].
وقال العلاّمة عبد الرحمن السّعديّ -رحمه الله-: «(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الذي هو أجلّ المساجد على الإطلاق (إلى الـمَسْجِدِ الأقصَى) الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محلّ الأنبياء … وقوله: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، أي: بكثرة الأشجار والأنّهار والخصب الدائم. ومن بركته: تفضيلُه على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنّه يطلب شدّ الرّحل إليه للعبادة والصّلاة فيه، وأنّ الله اختصّه محلّا لكثير من أنبيائه وأصفيائه» [تفسير السعدي: ص453].
والسؤال الذي يطرح على كلّ مسلم، وعلى المطبّعين مع الصّهاينة من أمراء وعلماء خاصة، وعلى الذين يسوّغون التّطبيع من علماء ومفكّرين وإعلاميين بوجه أخصّ: ماذا نفعل بهذه الآيات القرآنية التي تتحدّث عن فلسطين والمسجد الأقصى؟! أنكفر بها أم نحذفها من القرآن الكريم؟! ماذا نفعل بسورة الإسراء المباركة أنكفر بها أم نحذفها من المصحف الشريف؟! إنّ سورة الإسراء التي يتلوها المسلمون في صلاتهم قد جعلت المسجد الأقصى جزءًا من عقيدة المسلم التي يكفر كلّية من كفر بها، إذ أنّ من يكذّب بآية واحدة كمن كذّب بكلّ القرآن كما هو معلوم. ثم هي تُومئ إلى وجوب أن يكون المسجد الأقصى تحت سلطان المسلمين ولا يجوز تركه تحت سلطان الكفّار وخاصة اليهود: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) [الإسراء: 7].
وهذا ما يوكّده حديث النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- عن أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول عن بيت المقدس: (صلاةٌ فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا مسجد الكعبة) [رواه أحمد]. وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومسجد الأقصى) [رواه البخاري ومسلم]. وعن ميمونةَ أيضا أنّها قالت: يا رسولَ الله، أفتِنا في بيتِ المَقدِسِ، فقال: (ايتُوهُ فصلّوا فيه -وكانت البلادُ إذ ذاك حَرباً- فإن لم تأتوه وتُصَلُّوا فيه، فابعَثوا بزَيتٍ يُسرَجُ في قَناديلِه) [رواه أبو داود]، فكلّ هذه الأحاديث وغيرها يفهم منها ضرورة أن يكون المسجد الأقصى تحت سلطة مسلمة حتى يستطيع المسلمون زيارته وشدّ الرّحال إليه، ولا يغيبنّ عن أذهاننا أنّ ساعة نزول تلك الآيات القرآنية وورود هذه الأحاديث النّبوية كان المسجد الأقصى وفلسطين محتلّين من الإمبراطورية الرّومانية، وقد فهم الصّحابة هذا الذي قلته، فشدّوا رحالهم، وحرّكوا جحافلهم تجاهه حتى حرّروه وطهّروه وردّوه إلى حياض التّوحيد. فهل نؤمن بما آمنوا به وبما نزل في الذّكر الحكيم أم نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟!
إنّنا والحمد لله ما زلنا نتلوا كتاب الله تعالى، ونقرأ سورة الإسراء ونؤمن بها، ولكن علاقتنا بفلسطين والمسجد الأقصى بدأت تفتر! فقد فعلت السياسة فعلها، وفعل إرجاف المرجفين بالتّشويش على المقاومة باسم الدّين للأسف الشّديد فعله! ولا أدلّ على ذلك من ملحظ لحظه أحد الأحرار من الأحباب الفلسطينيين الذين يعيشون في الجزائر، هو أنّ أئمة المساجد ما عادوا يدعون لفلسطين والمسجد الأقصى في خطبة الجمعة إلاّ نادرًا جدًّا! (ولَـحديث قِيَاس) لا يخفى مغزاه عن الأكياس!
شارك المنشور على
Share this content