بسم الله الرحمن الرحيم
الاستشارة رقم: 23 _____________________ صدرت بتاريخ: الجمعة 21 رمضان 1443ه
مجال الاستشارة: الفقه [المعاملات المالية]
عنوان المسألة: حكم إقراض صاحب المصْنَع من أحد المتعاملين على شرط الزيادة له في كمية السلعة المشتراة منه . ______________________________________
وقد وردت جواباً على السؤال الآتي: أشتري بضاعة من مصنع، ولـمَّا طلبتُ منه مزيدًا من البضاعة أخبرني أنّه لا يملك المال الكافي لشراء مادة أولية أكثر، فاتفقت معه أن أعطيه مبلغًا من المال، ليشتري به مزيدًا من المادة الأولية، وأنا أحصل مقابل ذلك على مزيد من البضاعة، علمًا أنّ سعر البضاعة لم يتغيّر، وفي نهاية السنة أسترجع المال الذي أعطيتُه إيّاه، أو نستأنف من جديد نفس المعاملة.
خلاصة الجواب:
المعاملة بهذه الصورة غير جائزة، لعدة أمور متلازمة:
أحدها: أنها تشتمل على «بيع وسلف» أي بيع مشروط فيه سلف، وقد ورد النهي عنه في السنة، واتفق الفقهاء على عدم جوازه.
الثاني: أنها ذريعة إلى المحاباة في السعر، وذلك ذريعة إلى الربا.
الثالث: أنَّ التاجر يستفيد زيادة في كمية السلعة مقابل ما يسلفه لرب المصنع، فيكون من القرض الذي جرَّ نفعًا، وقد اتفق الفقهاء على أنّ «كلّ قرض جرّ نفعاً فهو ربا». وذلك أن القرض مصنف في الشرع في عقود الإرفاق والمعروف التي يمتنع فيها اشتراط أي عائد دنيوي صراحة أو ضمناً. وتجوز المعاملة فيما إذا أمكن جعلها استصناعاً من المتعامل لصاحب المصنع، في سلعة معلومة القدر والصفة، مما اعتاد أن يشتريه منه جاهزاً
تفصيل الجواب:
أولا: المعاملة مشتملة على «بيع وسلف» وهو لا يجوز باتفاق:
إذا اجتمع البيع والقرض على وجه الشرط لأحدهما في الآخر، لم يجز لما ورد من النهي عنه في السنة، واتفق عليه الفقهاء:
. قال ابن عبد البرّ: «ولا خلاف بين الفقهاء بالحجاز والعراق أنّ البيع إذا انعقد على أن يُسلف المبتاعُ البائعَ سلفًا، مع ما ذَكر من ثمن السلعة، أو سلّف البائعُ المبتاعَ مع سلعته المبيعة سلفًا تنعقد على ذلك الصفقة بينهما، أنّ البيع فاسد عندهم». [الاستذكار: 6/433].
. وذكر الباجي أنّ الفقهاء أجمعوا على القول بمنع «بيع وسلف».[المنتقى: 5/29].
. وقال ابن قدامة: «ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه؛ فهو محرَّم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافًا». [المغني: 4/177].
وصورة اجتماع السلف مع البيع في هذه المسألة: أنَّ المتعامل مع المصنع أقرض صاحبه على أن يحصل منه على زيادة في السّلع التي لم يكن ليحصل عليها لولا القرض، فيتحقّق في تلك السّلع الزائدة من المتعامل: «بِعْني أُسْلفك»، ومن صاحب المصنع: «أسلِفْني أَبِعْك». وهذا هو معنى «بيع وسلف» الذي ورد النهي عنه، في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَحلُّ سَلَفٌ وبَيعٌ، ولا شَرطانِ فى بَيعٍ …» الحديث. [الترمذي : 1234؛ قال: وهذا حديث حسن صحيح].
ثانيا: النهي عن الجمع بين البيع والسلف راجع إلى أسباب ثلاثة:
. الأول: أنّ فيه قرضاً جرَّ نفعًا للمقرض:
وذلك بيِّنٌ من أن التاجر لم يكن مقرضاً لرب المصنع قرضاً مجرداً عن الغرض، بل لما يحصل عليه من توفير السلعة التي يطلبها، وهذا وجه من الانتفاع قد انتفع به، وقد اتفق الفقهاء على معنى خبر: «كلّ قرض جرّ نفعاً فهو ربا». يعني: كأنه أقرضه على أن يزيده في القضاء. [انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/ 63].
. الثاني: إخراج القرض عن مقصوده:
وذلك أنّ الشرع الإسلامي صنّف القرض في عقود التبرعات التي تراد للمعروف والإرفاق بين الناس، كالهبة والصدقة والعارية؛ فلا يجوز تعقّب الشرع بإخراج هذا العقد عن موضوعه وغرضه، بأن يجرّ إلى دائرة عقود المعاوضة، بالقصد إلى الاستعاضة من ورائه، بأيّ شكل من الأشكال، سواء كانت الاستعاضة صريحة كالفائدة، أو غير صريحة، كالانتفاع من المقترض بإهداء أو خدمة يقدّمها للمقرض، كتوفير مزيد من السلعة في مسألتنا. [المنتقى: 5/29].
الثالث: إدخال الجهالة على الثمن أو المبيع:
وهذا السبب منتف في هذه المسألة.
وبيانه: أنّك إذا اشتريتَ سلعةً بألفٍ من رجل على أن تُسْلفه ألفاً، فإنّك تكون أخذتَ سلعته بألف وزيادة تتمثل في منفعة السّلف الذي أسلفته إياه، وتلك المنفعة لا تتقدّر بمبلغ معلوم من المال، فتكون كأنك اشتريت سلعته بألف وزيادة مجهولة. وهذا معنى قول الشيخ خليل في الشروط التي تفسد البيع: «وكبيع وشرط يناقض المقصود …أو يُخلّ بالثمن، كبيع وسلف». قال الخرشي في شرحه: «ومعنى إخلاله بالثمن بأن يعود جهلُه في الثمن إمّا بزيادةٍ إن كان الشرط من المشتري، أو نقصٍ إن كان من البائع، كبيع وسلف من أحدهما؛ لأنّ الانتفاع بالسَّلف من جملة الثمن، أو المثمن وهو مجهول». [شرح الخرشي:5/81].
وإذا كنتَ أنتَ مشترطُ السّلف منه، انعكس هذا المعنى في جانبك، فيكون قد أعطاك السلعة ومنفعة القرض بألف، فيكون بعض المبيع وهو منفعة القرض مجهولاً. والجهالة إذا دخلت في أحد العوضين أفسدت العقد باتفاق العلماء.
ثالثا: لا خلاف بين الفقهاء في امتناع الجمع بين البيع والقرض إذا اشتُرط ذلك صراحة أو حكما:
وذلك بأن يشترط أحد المتبايعين السّلف في الصفقة، كما في هذه الواقعة، فإنّها ترجع في المعنى إلى قول صاحب المصنع للمتعامل: أسْلِفني وأبيعك، أو قول المتعامل له: أسلفك وتبيعني. فهذا من الاشتراط الصريح. وأمّا الاشتراط الحكمي، فبأن يكون ثَمَّ عُرْفٌ جارٍ على الجمع بينهما؛ إذ الجريان على العرف كالتصريح بالشَّرط، ومضت القاعدة بين الفقهاء أنّ: «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً».
واختلف الفقهاء في اجتماعهما من غير اشتراط، وجمهورهم على جوازه؛ لانتفاء علة المنع، وهو المعتمد عند المالكية. [انظر: حاشية ابن عابدين: 5/167؛ الشرح الكبير للدردير: 3/67؛ الحاوي الكبير للماوردي: 5/351؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/334].
وقد حصر المالكية حالات اجتماع البيع مع السلف في ثلاث صور:
الصورة الأولى: بيع وسلف بشرط صريح أو لجريان العرف به، وهذه لا تجوز بلا خلاف.
الصورة الثانية: بيع وسلف بلا شرطـ؛ لا صراحة ولا حكماً، وهي جائزة على المعتمد.
الصورة الثالثة: تهمة القصد إلى بيع وسلف. ونوضّح ذلك بمثال: لو بعتَ رجلاً مكتباً بألف مؤجلة إلى ثلاثة أشهر، ثم بعد شهر اشتريتَ منه المكتب بطاولة وخمسمائة منجزة؛ فبهذا يرجع مكتبك إليك ويخرج من المعاملة، وتبقى في المحصّلة كأنك بعته الطاولة بخمسمائة مؤجلة إلى بقية الأجل وهو شهران، وأسلفته خمسمائة، فإذا حلّ الأجل أخذت منه الألفَ؛ نصفُها قضاءً عن سلفك، ونصفُها عن ثمن الطاولة. فهذه المعاملة تضمّنت بيعاً وسلفاً مبطّناً، فيمتنع بشرط أن يتكرّر التعامل به، حتى يكون ذلك أمارة على القصد إليه بهذه الحيلة، فتتحقق التهمة التي من أجلها يمتنع. وهذه الصورة مفصّلة في أبواب العينة وبيوع الآجال. [انظر: حاشية البناني على شرح الزرقاني: 5/154].
رابعا: تجوز المعاملة فيما لو أمكن جعلها عقد استصناع:
وذلك بأن يجعل المتعامل ما يسلفه إلى صاحب المصنع ثمناً لسلعة يستصنعه إياها، موافقة للسلعة التي اعتاد أن يشتريها جاهزة، فقد أجاز بعض الفقهاء هذا التعاقد من غير أن يشترط فيه شرط السّلَم، من تعجيل رأس المال وضرب أجل لتسليم المصنوع، على ما هو مبيّنٌ في محلّه من كتب فقهاء الحنفية. فالثمن المسبق بهذا لا يكون قرضاً بل هو ثمن، والعقد به صحيح، كما في عقد السّلَم. والله أعلم.
أد. عبد الـحقّ حـميش $ أد. عبد القادر جدي |
أ. مـحــمّــــد ســـكـــحــــال $ أد. يـــونــــس صــوالـــــحي |
أد. عبد القادر داودي $ أد. مـخـتار حـمحامي |
د. مـــــحـــــمّـــد هــــــنــــــــدو $ أ.سـمــــــــــــير كـــــيـــــجـــاور |