تعريف الدرس الفقهي المالكي المعاصر:
إذا تحقق بحكم الواقع والضرورة؛ أنّ الفقه في الأزمنة المتأخّرة لا ينفكّ عن التمذهب؛ فإنّ هذا الكتاب يقدِّم تعريفاً بالمذهب المالكي ليكون مدخلاً إلى الدرس الفقهي من خلاله؛ فالتعرّف على المذهب في تكوينه التراكمي عبر الأعصار والأمصار، يهدي إلى مواصلة الطريق بالبحث عمّا يجب أن نفعله في عصرنا ونقدّمه لأهله، حتّى يفقهوا دينهم فقهاً سهلاً سلساً متصلاً بالحياة وتقلّباتها وتشابكاتها.
إنّه عملٌ تعريفيٌّ توجيهيٌّ للمشتغلين بالفقه على هذا المذهب السَّنِي مذهب أهل المدينة، يصبّ في خدمة الدرس الفقهي خدمة تتناسب مع كلّ عصر بما فيه من تغيّرات وإفرازات وشؤون تثير أسئلة جديدة تطرح على الفقهاء.
ومرادنا بالدرس الفقهي كلّ ما يتعلّق بالشأن الفقهي في الجوانب التعليمية والتطبيقية، كالتدريس، والفتوى، والقضاء، والتأليف سواء القاصد منه إلى إعادة الإخراج والعرض في قوالب وبأساليب جديدة، أو إلى البحث والتحقيق في مسائل وموضوعات مفردة جديدة أو قديمة غير محررة، وغير ذلك من الأغراض التأليفية.
فينبغي للمشتغلين بالفقه في دائرته المالكية، أن لا يقفوا عند الحدود التي وصل إليها أسلافهم، ويقصُروا جهودهم على إبراز خصائص هذا المذهب ومحاسنه وجمالياته، ولكلّ مذهب محاسن وجماليات، بل يجدر بهم أن يدركوا أن اختصاص كلّ عصر بمستجدّات ومتطلّبات يستدعي أن يواكب الدّين في جوانبه العملية التطبيقية مسيرة الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها المتجدّدة، فيتابعها بالتعريف والتوجيه ولا يتأخّر عنها، ويحكم عليها كيفما تطوّرت وتغيّرت، وذلك بجهود رجال كلّ زمان. فالدّرس الفقهي، سواء المالكي منه وغير المالكي، ينبغي أن يكون حركيّاً متغيّراً مرِناً يستجيب لحاجات العصر، من غير أن يضيع من حقيقة الدّين والتديّن شيئاً.
ففكرة الكتاب تتمحور حول توجيه الجهود نحو خدمة الفقه الإسلامي والنّهوض به انطلاقاً من مذاهبه التي تَشكّل فيها واستقرّ عليها، وتأسيساً عليها، مع تناولها من الجوانب الفنية والشكلية بما يجدّدها ويجمّلها ويقرّب للطالب والباحث تناولها والوصول إلى بغيته من مصادرها.
وقد توصل البحث إلى النتائج الآتية:
-
ليس المقصود من الدرس الفقهي ما يلقيه المعلّم على الطالب في وقت معيّن، فهذا معنى قاصر، بل يقصد به: منهجية تعلّم الفقه وتعليمه، إنتاجا وإعادة، بمختلف الوسائل والأساليب الشفاهية منها والكتابية، من بحوث ودراسات، ومقررات وفتاوى، وكيف يتدرّج الفقيه حتّى يتأهّل للفتوى، فهو يتناول العملية التفقيهية برمّتها.
-
إنّ الدرس الفقهي المالكي ذو أهمية بالغة، ومن مسوّغات الاهتمام به من الجانب الشرعي الحاجة المستمرة إلى إخراج فقه متناسب مع ما يلابس الحياة من تطوّرات وتحوّلات في كلّ عصر، أمّا من الناحية المنهجية فهو الحاجة إلى عرضه في قوالب جديدة تغري بالإقدام على التعلّم والاهتبال به.
-
يتميز المذهب المالكي بخصائص متنوعة وكثيرة، بعضها يرجع إلى نشأته ومنطلقه؛ كنشأة المذهب في المدينة المنوّرة، وأثره الواضح في شخصية الإمام مالك -رحمه الله- وأصول مذهبه، وبعضها يرجع إلى طبيعة تكوينه وتدوينه، كجماعية التكوين التي يتميّز بها المذهب بشكل واضح عند مقارنته بالمذاهب الأخرى، والتدوين المبكّر عند إمام المذهب أو عند تلامذته، وترجع بعض الخصائص الأخرى إلى طبيعة انتشاره، كانتشاره المبكّر في أقطار عديدة، ومنها ما تعلّق بشيوخ المذهب، كالتكامل في أعمال شيوخه في الطبقات المتعاقبة، أو مشاركتهم في خدمة مختلف علوم الشّريعة، ومنها ما تعلّق بطبيعة فقهه كالواقعية والتوسّط وعدم التحديد، وبعض هذه الخصائص قد توجد في المذاهب الأخرى، لكنها ليست بالشكل الواضح في المذهب المالكي كجماعية التكوين مثلا، ولذلك كانت من مميزات المذهب المالكي.
-
تميّزت الخزانة الفقهية المالكية بثرائها بالمؤلّفات المتنوّعة؛ المحلّاة بالأدلّة النقلية والعقلية، والمجرّدة عن أدلّتها، وبتباينها تبعًا للأدوار التي مرّ بها المذهب، وخضع الترتيب الفقهي في التأليف عند المالكية على غرار غيرهم من أرباب المذاهب لعنصر المناسبة، وتميزوا باصطلاحات ورموز خاصّة؛ لغرض الاختصار أو بيان الأهمية.
-
وضع فقهاء المالكية ثلاثة مستويات للمتفقّه المالكي يتدرّج فيها من الأسهل إلى الأصعب، سواء في النظام التقليدي ممثّلاً في الزوايا والمساجد، أو في النظام الحديث المتمثّل في المدارس والمعاهد والكليات، ولكلا الطريقتين مزايا وعيوب، ويمكن تلافي المساوئ بالجمع بين الحسنيين والاستفادة من مزايا الطريقتين، وقد حاولنا إعطاء مناهج مقترحة في التعلّم والتعليم والتأليف تخرج فقهاء متميّزين لهم قدرة على التعليل والتأصيل، والاستنباط والتنزيل.