مقامات الإسلام في معاملة الأديان

You are currently viewing مقامات الإسلام في معاملة الأديان

مقامات الإسلام في معاملة الأديان

مقامات الإسلام في معاملة الأديان

د.محمد هندو

أهمية فقه المقامات:

فقه المقامات معناه: منهج تناول الأفكار والموضوعات وفهمها بالنّظر إلى جميع جهاتها وزواياها، نظرًا تفكيكيًا وتركيــبــيًا في نفس الوقت، تفكيكـيًا بفهم كُلِّ جهة على حِدَتها، وتمييز ما يفرِّقها عن الجهات الأخرى، ويختصُّها به، ومعرفة متى تكون جهة من تلك الجهات هي الأجدر بالاستدعاء والفعل والتأثير بحسب ما يقتضيها من ظرف وحال ونسبة، ونظراً تركيــــبـــيًا بالتأليف بين الجهات المختلفة، ورسم الصورة الكلية الناجمة عن ذلكم التركيب.
فإذا قلت: مقامات الخطاب الشرعي، فهي: مقام العموم، ومقام الخصوص، ومقام الإطلاق، ومقام التقييد، ومقام التقصيد والتعليل، ومقام التعبد والتوقيف، ومقام الرخصة، ومقام العزيمة، ومقام المسامحة، ومقام المشاحّة، ومقام العفو، ومقام الحزم، ومقام الترغيب، ومقام الترهيب، ومقام الأمر، ومقام الاستحباب، ومقام الصغيرة، ومقام الكبيرة من الذنوب … إلخ.
وإذا قلت: مقامات الهدي النبوي، فهي: مقام التشريع للعموم، ومقام الاستثناء والاختصاص، ومقام القضاء في الخصومات، ومقام الفتوى وفق ظروف النازلة، ومقام النصيحة والإرشاد، ومقام التهديد، ومقام الإنفاذ، ومقام الإمامة وسياسة الدولة، ومقام الحرب، ومقام السلم، ومقام العادة، ومقام الجبلة، ومقام الكسب الدنيوي … إلخ.
وهكذا إلى ما لا يكاد يُحصر من وجوه انصراف الخطاب، وما يحمله من أحكام وموضوعات إلى جهة مخصوصة دون سائر الجهات.
لعلّ تسعة أعشار الغلط في فهم الخطاب الشّرعي؛ مأتاها الغفلة والذّهول عن تعدّد المقامات ذهولاً كلّياً أو جزئياً، فيتوهّم من نصب نفسه للفهم والتفهيم أنّ خطابًا من خطابات الشّرع هو مقام واحدٌ صالح لجميع المنازل والأحوال، وإذا لم يغفل عن تعدّد المقامات؛ فمن أوسع أسباب الغلط أيضا؛ الخلط بين المقامات بتضييقها عمّا تسعه، أو توسيعها فوق ما تحتمل، أو إدخال بعضها في بعض، أو إبدال بعضها ببعض، وهكذا.
ومن الموضوعات الهامّة التي يكثر فيها ما ذكرنا من الغلط، وسببِه الدّائر على التقصير في فقه المقامات: موقف الإسلام من الأديان وأتباعها، ومنهجيته في التعامل معها، فهي منهجيةٌ مفرَّعةٌ على عدّة منازل ومقامات، يقتضي كلَّ مقام منها حالٌ ونسبةٌ مشخّصةٌ بدقّة، فيخــتـــزلُ الغالطُ -أو متعمّد التغليط- تلك المنهجية في خطاب من خطابات الشرع في الموضوع، ويعمّمه على جميع المنازل، كقوله: الإسلام دين السّيف، أو قوله: الإسلام دين الحبّ، ودين السّلم والتعايش، أو قوله: الكفر ملّة واحدة، أو قوله: النّبي صلى الله عليه وسلم تصالح مع اليهود، ومرِضَ جارُه اليهودي فعاده، وهكذا.
 ولا يخفاكم ما فيه من تعضية الشّرع، وتزوير أحكامه، والتقوّل على الله تعالى بغير علم، والتلبّس بالكذب المنهيّ عنه، والذي حذّر منه الشّرع الحنيف أشدّ التحذير.
وإذا كان كذلك؛ فقد تبيَّن لي بالمطالعة والتفكير فيما جاء به الشّرع من الموقف من أهل الأديان، وفي بعض ما كتب في ذلك، أنّه يتفرّع إلى خمسة مقامات، نبيّنها بإيجاز في هذه المقالة، والله المستعان.

المقام الأول: مقام الاعتقاد والتشريع.

هذا مقامٌ يفاصل فيه الإسلام بقيةَ الأديان مفاصلةً صريحةً وواضحةً في حقّية ما جاء به من عقيدة وشريعة، وبطلان ما استُحدث من الأديان استحداثًا بشريًا محضًا، أو ما أُدخل في ديانات الأنبياء ممّا يخالف دين الإسلام.
أي أنّ كلّ عقيدة تخالف العقيدة التي جاء بها الإسلام؛ فهي باطلة، وكلّ شريعة سواء قيل إنها سماوية، أو كانت أرضية، إذا كانت مصادمة لشريعة الإسلام فهي باطلة.
ومعنى البطلان أنها تؤدّي إلى فساد الحال والمآل الدنيوي والأخروي، فلا حال النّاس ومآلُـهم الدنيويين ينصلح، ولا مآلهم الأخروي ينصلح.
وهذه المفاصلة مبنية على قاعدة: أنّ الحقّ في القطعيات واحد، لا يتعدّد، ولا يقبل التقسيم، لأنّ الأمر القطعيّ لا يحتمل الخلاف، وأصول العقيدة، وكذلك أصول الشريعة قطعية لا مجال فيها للمخالفة. هذه القطعية نصَّ عليها الكتابُ العزيز، فقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41-42]، ونطق القرآن الكريم بأنّ ما جاء به نبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم هو الحق الظاهر على ما سواه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33]، وقال عزّ وجلّ: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان: 33]، وقال جلّ جلاله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18].
والنّاس معتادون على العمل بهذه القاعدة فيما يرومون فيه القطع، ومن ذلك على سبيل المثال: أنسابُهم، وأملاكهم، فلا يقبل منتسبٌ لأب أو قوم أن يكون ذلك بالتظنّن، وبالتسامح والتقاسم، ولا يقبل أحدٌ أن يخرج مِلْكٌ من يده بغير طيب نفسه إلاّ بالحقّية القاطعة، ولذلك تراهم يترافعون إلى القضاء في هذه المسائل، ويطول تنازعهم فيها حتّى تخلص إلى الحقّ القاطع.
وإذا كانت تلك عادة النّاس فيما هو من شأن دنياهم، فلا شكّ أنّ أمر الدّين أولى بالقطع.
كما أنّها مبنية على قاعدة: ختم الرسالة، ونسخ ما جاءت به الشّرائع السّابقة من أحكام التشريع، أمّا العقائد فما جاءت به الأنبياء هو عقيدة واحدة، وهي عقيدة التوحيد، وحيثما خولفت فهو تبديل وتحريف طرأ عليها، ليس منها في شيء.
قال الله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 33]. وقال سبحانه: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [آل عمران: 67]. وقال تعالى: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136]. وقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا) [آل عمران: 81].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم في الدّنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد) [البخاري]. ومن عقيدتنا نحن المسلمين أنّ عيسى عليه السلام ينزل آخر الزّمان حاكمًا بالشّريعة الإسلامية، ويصلّي خلف إمام المسلمين، قال الإمام مسلم في صحيحه: (باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم). وروى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم؟) [متفق عليه]. وفي مسند الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ليُهِلَّنَّ ابنُ مريم من فجّ الرَّوْحَاء بالحجّ أو العمرة، أو ليثـــنِّـــيَهُما).
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقرأ في كتاب من كتب أهل الكتاب فغضب وقال: (أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب، فوالذي نفسي بيده لقد جــئـــتكم بها بيضاء نقية … والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلاّ أن يتبعني) [ابن أبي شيبة، وأحمد، وغيرهما].
وأمّا الشريعة؛ فقد صدّقت شريعة الإسلام شرائع الأنبياء من قبل، غير أنّها نسخت صلوحيتها للاستشراع بعد ختم النّبوة. فقال جلّ شأنُه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ) [المائدة: 48]. قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (وقد أشارت الآية إلى حالَتَي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيّدٌ لبعض ما في الشّرائع، مقرِّرٌ له، من كلِّ حكم كانت مصلحته كلّية لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدّقٌ، أي محقّق ومقرّر، وهو أيضًا مبطلٌ لبعض ما في الشّرائع السّالفة، وناسخٌ لأحكامٍ كثيرة، من كلّ ما كانت مصالحه جزئية مؤقّتة، مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة) [التحرير والتنوير].
ودونك استعراضًا لبعض النصوص القرآنية والنبوية الدالة على هذا المقام:

المفاصلة العقدية:

قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) [آل عمران: 19]،وقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]، وقال: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115]، وقال: (فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) [يونس: 32].

المفاصلة التشريعية:

قال جلّ جلاله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 60]، وقال: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ) [المائدة: 49]، وقال: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73-75].
وروى الترمذي، والبيهقي، والطبراني، وغيرهم، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال: (يا عديّ اطرح هذا الوثن من عنقك)، فطرحته، فانتهيتُ إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]، حتّى فرغ منها، فقلتُ: إنّا لسنا نعبدُهم، فقال: (أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟)، قلت: بلى، قال: (فتلك عبادتهم).
فعلى هذا الأساس التفاصلي بين الإسلام والأديان في مقام العقيدة والشّريعة؛ لا يحلّ لمسلم أن يعتقد أنّ في الأديان حقًّا ليس في الإسلام، أو أنّ الأديان يصلح شيءٌ منها ليُعبَد به الله، أو ليتشرَّع به العباد في نُظُمِهِم وقوانينهم، ومن اعتقد ذلك فقد نقض قاعدة الإيمان بالرسالة الخاتمة.
وما يأتي ذكره من إقرار الإسلام أهل الأديان على معابدهم وتعبُّداتهم وتشرُّعاتهم؛ ليس إقرارًا بحقّيتها، وإنما هو مقام التعايش الآتي شرحُه وتوضيحُه.

المقام الثاني: مقام المجادلة.

لم يكتف الإسلام بالمفاصلة العقيدية والشريعية بينه وبين سائر الأديان، سماوية كانت أو بشرية، بل سلك مسلكًا ثانيا وهو المجادلة، وهو الذي يُسمّونه “الحوار”، ولكنّ المصطلح القرآني أدقّ وأضبط، من حيث أنّ المجادلة هي الحوار البرهاني القائم على استعراض الحجج الكافية والوافية على صحّة قضية لا تقبل الاحتمال والتشكيك، مع تفنيد أدلة الخصم، فالجدال لا بدّ أن ينتهي بأحد أمرين: الإذعان، أو المكابرة. أمّا الحوار فهو مطلق مراجعة الكلام وتداوله، لأيّ غرض من الأغراض، ولا يلزم منه إذعان ولا مكابرة، وقد استعمل القرآن الحوارات، ولكنّها كالمقدّمات إلى مقام المجادلة الذي يتسنّم الغرض كلّه.
ولا يذهبنّ بال القارئ إلى المعنى المذموم من الجدل، وهو المراء القائم على استعمال المقدّمات الباطلة، وترويجها بالحيل الخطابية، وتلحين الكلام وتزويقه، والمسمّى في علم المنطق: السفسطة، فذلك هو المقصود بقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) [الحجّ: 8]، وقوله: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر: 5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّا) [أبو داود، والترمذي، وغيرهما]، أي: لا يجادَل في الحقّ إلاّ بالحقّ، لا بالباطل، وليس معناه: ترك الجدل في الحقّ بالحقّ، بل الجدل في الحقّ بالحقّ هو من أشرف العلوم والصّناعات.
وقد جاء الكتاب والسنّة بطلب الجدل في الحقّ بالحقّ، بوصفه أدقّ الطرق في تبيين الحقّ وإظهاره، قال سبحانه: (وَجادِلْـهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النّحل: 125]. وذكر القرآن مجادلة نوح لقومه على لسانهم: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود: 32].
ونهج القرآن الكريم منهج مجادلة أهل الكتاب بشكل موسّع مستعمِلاً في ذلك أساليب شتّى: الاستفهام الاستنكاري، القصص والتذكير بسالف أحوالهم وأنبيائهم ونعم الله عليهم، ضرب الأمثلة والأقيسة والتنظيرات، الوعظ والترغيب والترهيب، التحدّي إلى درجة المباهلة.
قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64]، قال تعالى: (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 66]. قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 71]،قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ) [النساء: 171].
فالجدل في المنهج القرآني ليس حواراً استرخائياً، يقول فيه المتحاورون ما شاؤوا ثم يفترقون، بل هو دخول في مسار حِجَاجي لا بدّ أن ينتهي بإحدى نتيجتين: الإذعان للحجّة، أو المكابرة، ومن ثمّ يحمِّلُ الحوار القرآني المحاوِرَ كامل المسؤولية الدنيوية والأخروية فيما ستؤول إليه نتيجة الحوار.
قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 137]، وقال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 20]، وقال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54]، وقال:(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 32]، وقال: (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) [آل عمران: 63].
ويصل تحميل المحاور المسؤولية إلى غاية المباهلة: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران: 61].
بناءً على مقام المجادلة ألّف علماء المسلمين أسفارا ودواوين في مجادلة أهل الكتاب، وأصحاب الأديان، نذكر منها:
أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية، للقرافي.
الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، له أيضا.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية.
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، لابن القيم.
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم.
بذل المجهود في إفحام اليهود، للسموأل بن يحيى المغربي.
إظهار الحق، لرحمت الله الهندي.
خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس، لأحمد ديدات.
أمّا المؤلفات المعاصرة فلا تكاد تحصر.
إنّ الحوارات والمباحثات الجادّة تؤدّي إلى معرفة الحقيقة لا محالة، لأنها ناصعة ومعقولة، لا غبش فيها، والحقيقة هي الإسلام، وفي تجارب التاريخ من ذلك ما لا يُحصى من الأمثلة والنماذج، بدءا من إسلام العديد من الصحابة الذين كانوا يهودا أو نصارى، مثل: أمّ المؤمنين مارية القبطية، وأختها سيرين، وأمّ المؤمنين صفيّة بنت حيي، وعدي بن حاتم الطائي، والحبر عبد الله بن سلام، والأصبغ بن عمرو، وأكيدر بن عبد الملك، وبجير بن بجرة، وبشير بن معاوية، والجارود بن المعلّى، وحجّار بن أبجر، وجابر مولى بني عبد الدار، وزيد بن سعنة من أحبار اليهود، وأسد بن كعب، وعبد الله بن صوريا، وعبد الله بن سلام، وعديّ بن حاتم، ومخيريق، وورقة بن نوفل … وإسلام هرقل بسؤاله عن أحوال النبوة، في حواره المشهور مع أبي سفيان بن حرب، وقد روى البخاري وغيره تلك الأسئلة البحثية الحجاجية الدقيقة التي دلّت أجوبتُها هرقلَ على الحقّ النّاصع المبين، حتى قال: (فلو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغَسَلتُ عن قَدَمِه)، كانت أسئلة هرقل كالآتي:
وقد تكرّرت قصّة هرقل في التاريخ في كلّ من بحث عن الحقيقة بالتجرّد، حتى قادتهم إلى الإسلام، ومن ذلك مشاهير هذا العصر من العلماء والمفكرين والفلاسفة الغربيين من يهود ونصارى، أمثال: مراد هوفمان، روجيه جارودي، رينيه غينون، ليوبولد فايس، ألفونس إتيان دينيه، موريس بوكاي، جفري لانج، كيث مور، تاجاتات تاجسن، ألفريد كرونير، مارتن لنجز، مايكل ولفي سيكتر، ويليام بيكارد، روجيه دوباكييه، آرثر أليسون، فانسان مونتييه، آلا أولينيكوفا، ماريا ألاسترا، مارجريت ماركوس، إيفيلين كوبلد، صوفي بوافير، باربارا براون … وغيرهم كثير.

المقام الثالث: مقام التعايش.

ومعناه: بعد المفاصلة العقيدية والشّريعية، وبعد سلوك مسالك الحوار البرهاني بشتّى أساليبه، فمن بقي من أهل الأديان على غير الإسلام إمّا جحودًا وعنادًا، وإمّا لأنّه ما زال يبحث عن الحقّ، وكان له بالمسلمين اتّصال، أو اختلاط، أو عيش في نفس الأقطار؛ فإنّ الإسلام رغم جحوده، أو جهله، أو حاجته لمزيد من البحث يكفل له حقوق التعايش.
أي: بحيث تقوم علاقة المسلم بغير المسلم على صون الحقوق وحفظها وعدم التعرّض بالأذى الجسدي أو المعنوي لهذا الإنسان، بل يعيش محفوظ الحقوق الإنسانية، ما لم يصدر منه تعدّي أو بغي أو عدوان أو كيد أو محاربة، فتنتقل العلاقة إلى مقام آخر هو ردّ عدوانه واستيفاء الحق منه بشتى الأساليب المشروعة.
ولذلك؛ فإنّ مقام التعايش قائم على التزام المتعايَش معه بمعادلة الحقوق والواجبات، وبقاعدة السّلم التام، والعدل الكامل، فهو تعايُشٌ من جانبين لا من جانب واحد، فمتى أخلّ هو به قوبل أيضًا بالإخلال.
والإخلال بالتعايش -لا سيّما إذا كان تصرف دولة أو جماعة منظمة- لا يُنتظَر وقوعه بالفعل، بل يُستبَق وقوعُه بما دلّت عليه القرائن والإرهاصات، فإنّ الإعداد للحرب كإيقاعها، وإنّ القول العدواني كالفعل العدواني، في نقض ميثاق التعايش السّلمي الآمن، وقد كانت غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ردًّا لعدوان واقع، أو استباقًا لعدوان متوقّع.
نقول هذا لأنّ مفهوم التعايش كثيرًا ما يُراد ترويجه بشكل منتكس، وهو القَبول بعدوان الأعداء، وظلمهم، وتعدّيهم، وسلبهم لحقوق المسلمين، فلا يكون للمسلمين دفعٌ ولا ردّ، أي أنّ المسلم يُظلَم وتُسلب حقوقه، وعليه هو أن يتعايش مع الظلم والسلب، ومثال ذلك: ما يُسمّى اليوم بالتطبيع؛ فحقيقته أنّ الغاصب يفرض إرادة التعايش على المغصوب منه أرضه وداره، فعليه أن يقبل بما غُصِب منه، ويتصرّف كما لو لم يكن المغصوب حقا له، وكأنه حق الغاصب. وهذا ما لا يقبل به الإسلام بتاتًا.
وأيضًا من السّياقات المنحرفة لمفهوم التعايش؛ المطالبة بتعايش المسلمين داخل دار الإسلام مع ما يوفد إليهم من ملل ونحل ومذاهب وتيارات فكرية؛ القصد من إيفادها خلخلة النظام الدّيني والثقافي للمجتمعات المسلمة … بينما من حقّ المجتمع الإسلامي أن يرفض الإيفاد إليه، فإذا وُجِدت بينه اعتقادات مخالفة للإسلام وجودًا تاريخيًا أو طبيعيًا تبنّاه بعض الأفراد فهو يتعامل معهم التعامل الطّبيعي، أمّا إذا وُجدت بطرق افتعالية، فهذا يؤول إلى أساليب الحرب، لا إلى أساليب السّلم.
في حين أنّ الدول غير المسلمة التي تعيش فيها جاليات مسلمة متجذّرة وأصيلة منذ عقود أو قرون، يُطلب من تلك الجاليات أن تنخرط في النظام الاجتماعي والثقافي لتلك الدولة، ما يُسمَّى l’intégration، ويطالبونهم بعدم التميز بمعتقداتهم وشعائرهم عن المجتمع الأوروبي، مصداق ذلك منع النقاب في الأماكن العامّة، منع المحجّبات من الوظائف في المؤسسات، منع بناء منارات المساجد، منع شعيرة الأضحية في أماكن عمومية … إلخ!
ويذهب الإسلام في مقام التعايش -وفق ضابطه المذكور أعلاه- مذهبًا بعيدًا، ويؤصِّل فيه أصولاً كبيرة، تدلّ أنّ معادلة التعايش بمنظور الإسلام ليست ظرفية، ولا وقتية، ولا هشّة.
فأباح الإسلام صلة المسلم أقاربه من الكافرين، وأباح الزواج بالكتابيات، وأحلّ طعامهم، وأجاز الاتّجار مع غير المسلمين، وشرع البرّ بهم، والإحسان إليهم بالهدية، وقبولها منهم، وبالصّدقة، وعيادة مرضاهم، وتعزيتهم في موتاهم على النحو المشروع، وتهنـئــتهم في مواسمهم الدّنيوية لا الدّينية، وسوّغ الدّعاء لهم بالهداية والرّشاد والصّلاح … إلى شعب أخرى عديدة، قال الإمام القرافي: (وأمّا ما أُمر به من بِــرِّهم، ومن غير مودّة باطنية؛ فالرفق بضعيفهم، وسدّ خلّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللّطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلّة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته؛ لطفًا منّا بهم، لا خوفًا وتعظيمًا، والدّعاء لهم بالهداية، وأن يُجعَلوا من أهل السّعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرّض أحدٌ لأذيّتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانُوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم، وكلّ خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدوّ أن يفعله مع عدوّه؛ فإنّ ذلك من مكارم الأخلاق) [الفروق].
فأمّا صلتهم: فروى البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ آل أبي ليسوا بأوليائي، إنّما ولييّ الله وصالح المؤمنين … ولكنْ لهم رحمٌ أبُلُّها ببلالها)، وفي رواية مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لمـّا أُنزِلت هذه الآية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]؛ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قُريشًا، فاجتمعوا، فعمّ وخصّ، فقال: (يا بني كعب بن لؤي؛ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرّة بن كعب؛ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس؛ أنقذوا أنفسكم من النّار، يا بني عبد مناف؛ أنقذوا أنفسكم من النّار، يا بني هاشم؛ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطّلب؛ أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة؛ أنقذي نفسك من النار، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئا، غير أنّ لكم رحِمًا سأبلُّها بِــــبِلالها).
وأمّا حلّ نكاح الكتابيات، وحلّ طعامهم، فقال الله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5].
وفي مطلق البرّ قال سبحانه: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8‏].‏ 
وفي الاتجار معهم، والإهداء لهم وقبول هداياهم؛ روى مالك والبخاري ومسلم أنّ عمر بن الخطّاب رأى حُلّةً سِيَراء (ذات سيور: خطوط) تُباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه الحلّة فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدِموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)، ثمّ جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منها حُلَل، فأعطى عمر بن الخطاب منها حُلّة، فقال عمر: يا رسول الله، أكسوتنيها، وقد قلت في حُلّة عُطَارد (التاجر بائع الحُلَل) ما قلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لــم أكسُكَها لتلبسها)، فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكّة.
قال النّووي: (هذا كلُّه دليلٌ لجواز صلة الأقارب الكفّار، والإحسان إليهم، وجواز الهدية إلى الكفّار، وفيه جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرّجال؛ لأنّها لا تتعيّن للُبْسِهم) [شرح مسلم].
وروى البخاري ومسلم وغيرهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل هدية أُكَيْدر دُومَة [مدينة قرب تبوك، وأكيدرها: مَلِكُهاوهدية فروة بن نفاثة الجذامي [كان عاملاً للرّوم على منطقة معان جنوب الأردن]، وهدية المقوقس أمير مصر والإسكندرية وغيرهم، وهم في ذلك الوقت كفّار، وأهدته اليهودية الشاة المصلية المسمّمة، فقبِل الهدية، وأخبرته ذراع الشاة بالسمّ.
وفي الدعاء لهم بالهداية؛ روى مسلم أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم دعا لأمّ أبي هريرة بالهداية فقال: (اللهمّ اهْدِ أمّ أبي هريرة)، قال أبو هريرة: فخرجتُ مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا جئتُ فصِرْتُ إلى الباب، فإذا هو مُجاف، فسمعَتْ أمّي خَشْفَ قدميَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة. وسمعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلَتْ ولبسَتْ دِرْعها وعَجِلَتْ عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسولُه.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏: قدم الطُّفَيل وأصحابه على رسول الله e فقال الطفيل‏: يا رسول الله، إنّ دوسًا قد كفرَتْ وأبَتْ، فادعُ الله عليها، فقيل‏: هلكت دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: (‏اللهمّ اهدِ دوسًا وائت بهم)، قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله e إلى المدينة، ومضى بدرٌ وأُحُدٌ والخندق، ثمّ قدمتُ على رسول الله e بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله e بخيبر، حتّى نزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دَوْس، ثمّ لحقنا برسول الله e بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين. [لقد كان من تلك البيوت بيت أبي هريرة رضي الله عنه راوية الإسلام].
وفي عيادة مرضاهم:‏ روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنّ غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبي e فمرض، فأتاه النبي e يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: (‏أَسْلِم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له‏: أطع أبا القاسم، فأسلم. فخرج النبي e وهو يقول: (‏الحمد الله الذي أنقذه من النار).
وفي التصدّق عليهم: قال الله عزوجل: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 272].
روى ابن أبي شيبة في سبب نزولها: عن سعيد بن جبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدّقوا إلاّ على أهل دينكم)، فأنزل الله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) إلى قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدّقوا على أهل الأديان). وروى غيره ما يقرب من هذا؛ أنّ المسلمين كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم، ونزلت هذه الآية. [انظر: العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر].
وأجاز الفقهاء استئجار الظئر (المرضع) غير المسلمة، واستئجار غير المسلم، وتوكيل غير المسلم، وكفالته، واستكفاله، والاستيداع عنده، والاستعارة، والاستقراض، والاستطباب، والتعلم عنده، وأجاز بعض الفقهاء لغير المسلم أن يحي الأرض ويتملكها بالإحياء.
بل بلغ تأصيل التعايش بين المسلمين وغيرهم مبلغ التعاقد والتوثيق، ما يُسَمَّى بلغة العصر: الدسترة، والدستور، والعقد الاجتماعي، فكانت وثيقة المدينة المنوّرة عند تأسيس الدولة الإسلامية؛ أوّل وثيقة دستورية في التاريخ، تؤصّل للتعايش بين أكثر من دين، ضمن وحدةٍ سياسيةٍ واحدة، وهي الدولة الإسلامية.
لقد أصَّل الإسلام مبدأ المساكنة والتساكن بين أتباع أكثر من دين، في ظلّ نظام الدولة المسلمة، وهو المسمّى بلغة العصر (المواطنة)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرة مخاطِبا مكّة: (لولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت)، بل تعدّ الشريعة التهجير من الأوطان مصيبة من المصائب التي تنزل بالإنسان، وحيفًا وظلما يقع عليه، وتسمّى بلغة العصر: “جريمة التهجير القسري”، قال سبحانه: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ) [الحج: 40].
وقد استُهلّت وثيقة المدينة النبوية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا كتابٌ من محمّد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب (أي: مسلِمُهم وغير مسلمهم)، ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم (جهاد الدفع على الموطن من مسلمين وغير مسلمين): إنّهم أُمّةٌ واحدةٌ من دون النّاس (أمّة فيها أكثر من دين، منظّمة ومحكومة بنظام إسلامي)، وهو المسمى بلغة العصر: مبدأ الوحدة الوطنية.

وأصّلت وثيقة المدينة مبادئ أخرى في التعايش منها:

مبدأ التناصر بين أهل الوطن: مسلمين وغير مسلمين: جاء في الوثيقة: (وأنّ من تبعنا من يهود [تبعية النظام لا تبعية الدّين]؛ فإنّ له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصَرٍ عليهم).
مبدأ التشاور والنصيحة: (وأنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم).
مبدأ حرية الاعتقاد والتعبد: (وأنّ يهود بني عوف أمّة على المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم؛ مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم فإنه لا يوتِغُ (أي: لا يهلك)إلاّ نفسه وأهل بيته).
وعلى أساس هذا المبدأ أُقِــــرُّوا على ما تحت أيديهم من كنائس ومعابد، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب، وأساقفة نجران، وكهنتهم ومن تبعهم، ورهبانهم: (أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِـــــيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغيّر حقّ من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء ممّا كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين) [انظر: الأموال لأبي عبيد، والطبقات لابن سعد، ودلائل النبوة للبيهقي].
وبهذه السنة عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح القدس، فكتب لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها: أنه لا تُسكَنُ كنائسُهم، ولا تُهدَمُ، ولا يُنتَقَصُ منها، ولا مِن حَيِّزها، ولا من صَلِيبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحدٌ منهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية) [انظر: تاريخ الطبري].
وذكر ابن خلدون في “تاريخه”: (أنَّ عمر بن الخطاب t لـمّا دخل بيتَ المقدس؛ حان وقت الصلاة وهو في إحدى الكنائس، فقال لأسقفها: أريد الصّلاة، فقال له: صلِّ موضعَك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردًا، فلمّا قضى صلاته قال: لو صلَّيْتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلَّى عمر).
وقد فعل مثل ذلك الفاتحون للأمصار؛ فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل دمشق، وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه مع أهل طبرية، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه مع أهل بعلبك، وحمص، وحلب، وعياض بن غنم رضي الله عنه مع أهل الرقة، وحبيب بن مسلمة رضي الله عنه مع أهل دَبِيل [مدينة بأرمينية]، وغيرهم كثير. [انظر: فتوح البلدان، للبلاذري].
مبدأ النفقة الجماعية على المصالح المشتركة للوطن: (وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).
مبدأ موالاة من يوالي أهل الصحيفة ومعاداة من يعاديهم: (وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن).

المقام الرابع: مقام التعاون على المشترك القيمي والإنساني.

وأستهلّه بقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ) [المائدة: 2]، أغلبنا يستشهد بهذه الآية في سياق التعاون بين المؤمنين، ولكن سياق الآية يدلّ على التعاون حتّى مع غير المسلمين، وهو قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (وإذا كان هذا واجبُهم فيما بينهم، كان الشأن أن يعينوا على البرّ والتقوى … كلَّ ساع إليها، ولو كان عدُوًّا … فهم وإن كانوا كفّارًا يعاوَنُون على ما هو برّ؛ لأنّ البرّ يهدي للتقوى) [التحرير والتنوير].
إنّ الشّريعة ترحّب بكل جهد يعزّز قاعدة المصالح والقيم المشتركة، ولو كان جهدًا غير صادر من مسلم، ما دام ثقة أمينا، لا يُخشى منه الغدر والخيانة، فضلال الكافرين في العقيدة؛ لا ينفي عنهم كلّ قيمة حسنة، بل من الكافرين من يتحلى بقيم إنسانية عالية، من شأن الإسلام أن يعزّزها، ويقوّيها، ويعاونهم على ترسيخها، والعمل بها.
على هذا الأساس قال النبي صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا؛ ما أحبّ أنّ لي به حُـمْر النَّعَم، ولو أُدْعى به في الإسلام لأجبت) [البيهقي].
وسبب هذا الحلف أنّ رجلا من زبيد (باليمن)؛ قدم مكّة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقّه، فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سُمّي بحلف الفضول؛ لأنّ من عقدوه كان في أسمائهم: الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة، وغيرهم.
وعلى هذا الأساس؛ استعان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أعماله بمشركين، فاستجار بمشرك، وهو المطعم بن عدي، وقال في أسرى المشركين يوم بدر: (لو كان المطعم بن عديّ حيًّا، وكلّمني في هؤلاء النتنى [أي الأسرى] لتركتهم له).
واستعان النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته بمشرك وهو أريقط، وبوّب البخاري في صحيحه: باب مشاركة الذمّي والمشركين في المزارعة، وذكر فيه أنّ النبي عليه الصلاة والسلام عامل يهود خيبر على الأرض بشطر ما يخرج منها.
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم ساكن الأنبياء -عليهم السلام- أقوامهم، وتولّى بعضهم لهم ولايات وأعمالا، نموذج ذلك سيّدنا يوسف عليه السلام، تولّى لعزيز مصر وزارة الاقتصاد، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
فعلى هذا المنهج؛ يسوغ للمسلمين أن يمدّوا يد العون للمسالمين من الكافرين، والحاملين لقيم إنسانية صحيحة، وأن يستعينوا بهم في شؤون دنياهم، حيث لا يُخشى منهم غدر ولا شوكة ولا تغلّب أو هيمنة. فيتعاونون على المشتركات، كنصرة المظلومين، وردّ الحقّ لمن سلب منه، وكالتصدّي لشرور اللادينيين من إلحاد، وإباحية، وشذوذ، وانحلال … ومن ذلك التعاون في القضاء على الآفات، من فقر، وجهل، وأوبئة، وأمراض … ومن ذلك تبادل العلوم والمعارف والصناعات، وهلم جرا.

المقام الخامس: مقام رد العدوان.

وهو آخر مراتب التسلسل النظري في معاملة غير المسلمين، فالإسلام يفاصلهم عقديا وتشريعيا، ومع ذلك يجادلهم، ويعايشهم، بل ويمد إليهم يد العون والمعاونة على كل بر وخير وصلاح، ويقر ما يصدر منهم من خير وبر وصلاح، وهو في كل ذلك لا يمسّهم بأذى مادي ولا معنوي، ما داموا مسالمين.
فإذا صدر عنهم الشرّ أو العدوان، أو التمهيد للشرّ والعدوان، أو مظاهرة من يدبّر للمسلمين الشرّ والعدوان، أو غير ذلك من المقدّمات ناهيك بالفعل، فالإسلام يرد ذلك ويأباه، ويكفّهم عنهم بأوجه الكفّ المحصّلة لانطفاء الشر والعدوان، من عقوبة أو مصادرة أو قتل وقتال وغيره.
ومن ذلك صدّهم شعوب الأرض عن سماع صوت الدعوة، ومنعهم ذلك بالقوة، إذا لم يُخلّوا بين الناس وبين حرياتهم في اعتناق ما يشاؤون من الدّين، ناهيك بدهمهم أرضا من أراضي المسلمين أو غير المسلمين ظلما وعدوانا، أو تعرُّضهم لهم بالقتل أو بإتلاف مال أو عرض أو غير ذلك.
فههنا شرع الإسلام بل أوجب ردّ العدوان بكلّ السبل المشروعة، بحسب درجة ذلك العدوان، ونوعه. وأمر بذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة القولية، بله الفعلية والعملية.
هذه هي المقامات الخمسة الواضحة بكل جلاء في تعامل الإسلام مع الأديان، يحسن بكل مسلم أن يفهمها فهما جيدا، ويحسن تطبيقها على الواقع فيما هو من شأنه أن يطبقه، وما كان من شأن العلماء أو ذوي الأمر فليفهم عنهم هذا التأصيل والتنزيل.
لقد كتبت أفكار هذا المقال قبل أشهر، بمناسبة مشاركتي في حصة إذاعية حول الموضوع، وفي هذه الآونة بمناسبة وفاة الإعلامية المسيحية شيرين أبو عقلة، المناصرة بنضالها الإعلامي لقضية المسلمين الأولى، وإحدى معتركات وجودهم، ضد أكبر عدو للإسلام والمسلمين في التاريخ والحاضر والمستقبل وهو الصهيونية والصهاينة، وبالنظر لخوض خائضين من كل أصناف الناس ومراتبهم في الموضوع، مِنْ خائض بعلم وأدب، ومِنْ خائض بعلم دون أدب، ومِنْ خائض بنصف علم ونصف أدب، وِمنْ خائض بجهل بسيط، أو بجهل مركب، ومِنْ خائض بالشر كله: الجهل وسوء الأدب، والقدح في أهل العلم والأدب.
أقول: لمـّا رأيت ذلك أسرعتُ إلى تبييض هذا المقال، لعلّه ينفع في بابه وأوانه، وإذا تمهّد بيان المقامات فإنني أتفرغ الآن إلى تنزيلها على الواقعة، وفق الآتي:
المنزلة الأولى: التي ما كان ينبغي أن يحيد عنها مسلم يعرف دينه وعقيدته، ويعرف ما بين الإسلام وأهل الأديان من مقامات التعامل؛ هي منزلة التعزية من منازل مقام التعايش؛ لأهل هذه الإعلامية المسيحية وأسرتها وبلدها والرأي العام عموما، وإظهار المواساة والأسف على موتها، بالأدب الإسلامي المشروع في ذلك.
المنزلة الثانية: منزلة الغضب وتأليب الرأي العامّ على العدوّ الصهيوني المجرم، والاستغلال الأمثل للحدث في إظهار بشاعة هذا العدوّ، وإجرامه، وعدوانيته، وأنّه عدوٌّ للقيم الإنسانية الشريفة، وليس كما يدّعي أنه عدوّ الإرهابيين، ثم استمالة أهل الضحية وأصحاب دينها إلى عدم التردّد في مناصرة قضية المسلمين، بدليل ما رأوا من طغيان هذا العدوّ، وأنه لا يفرّق بين مسلم ومسيحي في عدوانه، وهلمّ جرّا من إدارة المعركة الإعلامية التي يُعدّ الانتصار فيها من مقدّمات تحقيق الانتصار على العدوّ، وهذا معلوم من تكتيكات واستراتيجيات الحروب منذ القديم، أمّا حديثا فيوشك المنتصر في معركة الرأي والإعلام أن يكون المنتصر بالفعل في معركة الميدان. ومن المؤسف أنّ المسلمين أظهروا جهلاً وعجزاً فادحًا في فقه هذه المعركة، فانقلبت إلى معركة داخلية بينهم، عوض أن تكون لصالح قضيتهم.
المنزلة الثالثة: عدم الهدم لمقام المفاصلة العقدية، وكان يقتضي تحرّي العبارات المشروعة أو العبارات اللطيفة في التعزية، وما يقتضيه ظاهرها من المواساة، وأن يفهَم المعزّي أنّ التعزية من شأن العلاقة الدنيوية في التعايش بين أهل الإسلام وأهل الأديان، وليست من شأن الحكم الأخروي وبيان المصير فيه، فإنّ من المحكمات الشّرعية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنّة، أنّ الترحّم أو الاستغفار لغير المسلم غير جائز، وأنه خارم لمقام المفاصلة الذي أوردنا أدلته المستفيضة، أو خادش فيه، أو موقع في اللّبس لا سيما عند العامّة من النّاس، وتلك مفسدة شديدة.
المنزلة الرابعة: الصبر على من جهل مقام المفاصلة إلى حين، إذا كان الاشتغال به يفوّت المقامات السابقة. لئن كانت المنازل السابقة من الواضحات عند طبقة العلماء في عمومهم، إلاّ ما شذّ أو تكلّف بعض التأويلات، فهذا المنزل الأخير من دقيق المسالك التي لم يصبر عليها الأغلبون، فاستهانوا بمقام الظَّرْف المضيَّق، أو سارعوا إلى تجاوزه وتخطّيه، متناسين أنه ظرفٌ جهاديٌّ يتعلّق بالكلّية الكبرى في استدراك الدَّهْم ودرئه عن بيضة الإسلام وأرضه وأرواح أهله وجملة دينهم ودنياهم، مفوّتين بذلك إعطاء النموذج الأمثل في ممارسة مقام التعايش، ومقام التناصر، ومفوّتين منزلة الغضب والتأليب من مقام ردّ العدوان، مع ما فيها من مصلحة تتّسم بأربع صفات تجعلها في أعلى درجات المصالح؛ أنها: كلّية، ضرورية أو مكمّلة ضروري، عملية، وعاجلة، وهي في الأصل استراتيجية حربية في منظور الأمم التي تتقن ممارسة الحروب، والتي لم نعد نتقن منها شيئا للأسف، وليست نافلةً من القول، أو عبثًا من الفعل كما يظنّ البعض ممّن ليس بصدد إدارة أيّ حرب، إلاّ حربًا ضدّ إخوانه المسلمين، ويظنّ مع ذلك أنّه ممسكٌ بالعَزَمات، وأنّ قولنا هذا ممسكٌ بالمسامحات، في واحدة من ذهولات العقل المغفّل، وفي مفارقة من مفارقات الواقع البائس، ومع أنّ الفسحة في إعطاء الدرس النظري في المفاصلة، لا تفوت ولا تضيع، ومع أنّ درس المفاصلة أحوج إلى العمليات منه إلى النظريات.
وليس صحيحًا ما يقال من أنّ درس العقيدة هو واجبُ كلّ وقت، واسع أو ضيّق، عاجل أو فسيح، إنما الصحيح أنّ العقيدة أولوية كلّية، فإذا تنزّلت على الأوقات والأشخاص والأحوال؛ جاز أن تنخرم الأولية لعارض من العوارض المعتبرة، على غرار تخرّم الكلّيات بالعوارض، فإنها لا تكاد تطّرد كلّ الاطراد، وهذا معلوم بأدنى النظر، فإنّك لا تعلّم عقيدة لغريق يحتاج منك إنقاذًا، ولا تعلّم عقيدة لمسلم تحتاج منه في الوقت الضيّق مدافعة عدوّ داهم، ولا تعلّم عقيدة لزوجة كتابية تريد أن تنكحها، ولا ليهودي تريد أن تبايعه، وعلى هذا كبّر الصورة، ووسّع القياس، واستدع أوجه التعاور الكثيرة التي لا تمتنع شرعًا ولا عقلاً ولا عادة، لتُلْفي الوجه الذي رجّحناه من الاشتغال بالتعزية المؤدبة، ثم بالتحريض والتأليب من أسنحها وأقربها.

المنزلة الخامسة: الاختلاف بالرحمة.

وأخصّه بما يجري بين العلماء من مسالك النظر الدقيق، على أنّي أدعوهم إلى ترك التعجّل، وردّات الفعل، وإلى الحذر من الانجرار خلف صيحات الدِّيَكَة والجُهّال، فإنّهم يجرُّون العالِم إذا لم يَــتَــرَوَّ إلى حيث لا تحمد عقباه، وأن يعطوا النّظر حقّه من التمعّن والتمهّل، حتّى يصدروا عن ملكة صافية ممّا حباهم الله وفضّلهم به عن الرّعاع تفضيلا ًكبيراً، فإنهم إذا اختلفوا بعد ذلك فليكن على المهيع المسلوك بين أهل الشّأن من الرحمة والمودة، لا من التصاخب والتغالب.