صدرت بتاريخ: الجمعة 08 ربيع الأول 1443ه
مجال الاستشارة: الفقه [الأحوال الشخصية]
جوابًا على السؤال الآتي نصُّه:
وردت إلى هيئة الاستشارات الشّرعية بمؤسّسة الأصالة أسئلة كثيرة ومُلحّة، تستفسر عن عقد الزّواج الذي يعقد في البلدية وفقاً للإجراءات القانونية، هل هو عقدٌ شرعيٌّ مستوفٍ للأركان وشروط صحّة الزواج أم لا؟ وفي حال كونه غير مستوف، ما العمل لمن يقبل على الزواج؟ أو لمن تمّ زواجه بهذا العقد وحصل الدخول بين الزوجين؟
خلاصة الاستشارة
إنّ المشرّع الجزائري يؤكّد أنّ الشريعة الإسلامية مصدرٌ أصليٌّ لمسائل الأحوال الشخصية، وهذا مكسبٌ يجبُ أن يُثمَّن ويعزَّز ويرسَّخ، ومن أجل هذا التعزيز والترسيخ؛ فقد لاحظت الهيئة وجود بعض الاختلالات في تصوّر بعض أركان الزواج وشروطه في قانون الأسرة الجزائري المعدّل والمتمّم بالأمر رقم 05-02 المؤرخ في 27 فبراير 2005، كما لاحظنا أنّ صفة إجراء العقود من الناحية العملية تختلف من بلدية لأخرى، وأنّ ذلك لا يخلو أيضًا من اختلالات مخلّة بالتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية في إجراء هذا الميثاق الغليظ والمقدّس الذي يختلف في احترازاته عن سائر العقود، كما سنبيّن في هذه الاستشارة بالتفصيل.
وبناءً عليه؛ فإنّنا نرى أنّ صياغة المواد القانونية تحتاج إلى تعديل، وأنّ صفة الإجراء العملية تحتاج إلى ضبط ومأسسة أخرى، وقد قدّمت الهيئة في ذلك ما تراه من المقترحات، وإلى حين حصول هذا الغرض المأمول، بل المطلب الملحّ، فإنّنا نحيل السائلين في هذه المسألة، وعامّة المواطنين على ضرورة شفع التسجيل المدني بالعقد الشرعي، والعقد الشرعي بالتسجيل المدني، إذ لا يجوز أن يستغنى بأحدهما عن الآخر، وننصح أن يكون ذلك متزامناً في نفس اليوم أو الأسبوع. أمّا ما حصل فعليا من الدخول بين زوجين بناء على التسجيل المدني، فإذا تمّ التسجيل على صفة العقد المطلوبة شرعًا، من حضور الولي الصحيح، وإجرائه صيغة الزواج بعبارته، وبالألفاظ الصحيحة، وغير ذلك من الأركان والشروط، فهذا لا إشكال فيه، أمّا ما اختلّ فيه ركن الولي، أو ركن الصيغة، أو صفة الشهادة، فمع كونه لا يحلّ ابتداء، إلا أنه يُصحّح إذا وقع الدخول، عملاً بأصل مراعاة الخلاف، لا سيما ما تقرّر بحكم حاكم، فإنه حينئذ لا يُنقض عند جماهير العلماء، رعياً لما حصل من الآثار التي يعدّ الانفكاك منها من الحرج البالغ.
أولا: مقدمات بين يدي الجواب:
المقدمة الأولى: الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع
والقانون الجزائري يقرّ بذلك فيما تعلّق بأحكام الأسرة والأحوال الشخصية. جاء في ديباجة قانون الأسرة: (إنّ رئيس الجمهورية؛ بناءً على الدستور ولا سيما المادتان: 151-2، و154 منه، وبناءً على ما أقرّه المجلس الشعبي الوطني، يصدر القانون الآتي نصّه). والمادة 151، الفقرة 2، من دستور 1976م الذي يشير إليه قانون الأسرة بوصفه مؤرخا في 4 يونيو 1984م، هذا نصّها: (تدخل كذلك في مجال القانون: … القواعد العامة المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية، وقانون الأسرة، وبخاصة الزواج والطلاق والبنوة والأهلية والمواريث).
[انظر الرابط الآتي: https://bit.ly/3iEVnui].
وجاء في الجريدة الرسمية للمناقشات: (وأكّد المشرّع الجزائري أنّ الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر القانون، واعتبرها مصدراً أصليا لمسائل الأحوال الشخصية، ومصدراً احتياطياً في المسائل غير المتعلّقة بالأحوال الشخصية كالمعاملات المدنية والمالية).
[الجريدة الرسمية للمداولات، السنة 3، رقم 146، ص11، الصادرة بتاريخ: 18 صفر 1426ه الموافق 28 مارس 2005م].
[رابط مباشر للتحميل: https://bit.ly/3uOS0pM].
ولا شكّ أنّ منطلق هذا الإقرار هو تمسّك الشعب الجزائري بشخصيته الإسلامية على مدار قرون من الزمان، والتي لم يستطع الاستدمار الفرنسي سلخه منها رغم المحاولات العديدة.
وإذا كانت الشّريعة الإسلامية مصدرًا أصلياً لقانون الأسرة الجزائري، فهي بالضرورة مصدرٌ تفسيري، إذ لا يمكن رفع اللبس عن مادة مصدرها الشّريعة، إلاّ بالشّريعة نفسها.
وإذا كان كذلك؛ فإنّنا نلاحظ وجود مفارقات بين التسليم بمصدرية الشريعة في مسائل الأحوال الشخصية، وبين تجسّد ذلك في صياغة بعض مواد قانون الأسرة، وكذا في تطبيقها في الواقع، وبالنظر لكون موضوع هذه الاستشارة هو عقد الزواج، فسنقتصر على بيان بعض المواضع المتضمّنة للخلل في التوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية من حيث صياغة المواد القانونية، ثم من حيث طريقة تطبيقها في الواقع.
المقدمة الثانية: ملاحظات على مواد في قانون الأسرة، نقترح تعديلها لتتوافق مع أحكام الشريعة.
الملاحظة الأولى: هل تلي المرأة عقد النكاح بعبارتها؟
تنصّ المادة (9) من قانون الأسرة الجزائري على الآتي: (ينعقد الزواج بتبادل رضا الزوجين).
والقصد بتبادل الرضا، تبادل الصيغة القولية بين الزوج والزوجة كما هو مفسّر في المادة (10)، وهذا ما يجعل الزوجة هي العاقدة بنفسها، وليس وليُّها هو العاقد، وسيأتي التصريح بذلك في المادة (11).
فنقول تعليقًا على ذلك: يسع الفقيه والمقنّن الأخذ برأي الفقهاء القائلين: إنّه لا يجوز إجبار البكر الكبيرة على النّكاح، وأنّه يشترط استئذانها ورضاها، بل يسع استظهار هذا القول وترجيحه، مع الإقرار بوجود الخلاف الفقهي في هذه المسألة. فاشتراط رضا الزوجين في هذه المادة صحيح على تفصيل يفترض ذكره، غير أنّ التعبير عن الرّضا كيف يكون، وبين من يكون؟ هذا محلّ تدقيق عند الفقهاء.
فقد اشترط جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة، وهي رواية لأبي حنيفة ولأصحابه): أن ينعقد النكاح بعبارة الولي، بأن يكون هو الموجب، فيقول: زوَّجتُك ابنتي أو مولّيتي، أو يكون هو القابل فيقول: قبلت. وقالوا: إنّ النكاح لا ينعقد بعبارة المرأة، فلا يصحّ أن تكون هي الموجبة أو القابلة بعبارتها، أي: مع القول باشتراط إذنها، فهي تأذن للولي، وتكون حاضرة في توثيق العقد، ويكون توقيعها دالاًّ على إذنها، أمّا إذا عقدت بعبارتها لم يصحّ عند الجمهور خلافاً للحنفية.
وذلك أنّ عقد المرأة بعبارتها يجعل حضور الولي شكليا لا حقيقيا، أو آيلا إلى الشكلية، وهذه الشكلية ليست مجرد هاجس، بل إنّ القانون قد قرّرها بالفعل كما سيأتي بيانه بعد حين.
وقال الإمام أبو حنيفة في ظاهر الرواية: تجوز مباشرة الحرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها مطلقا، إلاّ أنّه خلاف المستحب. ومع وجود هذه الرواية عن أبي حنيفة إلاّ أنّ المفتى به عند الحنفية وما جرى عليه العمل عندهم: أنّ المرأة إن عقدت مع كفء جاز، وإن عقدت مع غير كفء لم يصحّ النكاح، بل يقع فاسدًا، ولو رضي الوليّ بعد ذلك لم ينقلب صحيحا. وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة. [انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 3/54 وما بعدها (ط دار الفكر 1992م)].
فهل يسع المقنّن الأخذ برأي الإمام أبي حنيفة في ذلك؟ الجواب: لئن اتسع الفقه الحنفي لذلك فإنهم اشترطوا الكفاءة في الزوج شرط لزوم، أي أثبتوا للأولياء الحق في الاعتراض عند عدم الكفاءة، وأن القاضي يفسخ الزواج إذا صح هذا الاعتراض، هذا في الجملة، أمّا ما جرت عليه الفتوى عند الحنفية فهو اعتبار الكفاءة شرطًا لصحّة الزّواج في بعض الحالات، وشرطًا لنفاذه في بعض الحالات، وشرطاً للزومه في حالات أخرى. [انظر: بدائع الصنائع: 2/317 وما بعدها (ط دار الكتب العلمية، 1986م)].
وقد توسّع الحنفية في خصال الكفاءة توسُّعاً يدلُّ على حرصٍ شديدٍ على إحاطة الزواج بغير وليّ بسياج من الشروط والضوابط التي تحفظ المرأة وأولياءها من أيّ غبن أو تغرير، فجعلوها ستة، وهي: الدّين (أي الصلاح والاستقامة على أحكام الشريعة)، وإسلام الأصول، والحرية، والنسب، والمال (أي القدرة على مهر المثل، والنفقة)، والحرفة.
هذا هو المنطق التشريعي المتكامل الذي اتسع له الفقه الحنفي، أمّا عقد المرأة نكاحها بنفسها وبعبارتها، مع عدم اشتراط الكفاءة، وسلب الولي حق الاعتراض حال عدم الكفاءة، إذْ لا نجد في قانون الأسرة الجزائري اشتراطاً للكفاءة في حق المرأة والأولياء، فهذا لا نجده في الفقه، ولا في أحكام الشريعة، بل هو تلفيق قانوني خارجٌ عن منطق المتشرّعة، كما أنّ هذه السعة لئن ساغت نظريًّا؛ فإنّها تخالف ما جرى عليه العرف في بلادنا من التمسّك بالمذهب المالكي، ومع كون المشرّع الجزائري لم يلتزم التقيّد بمذهب معيّن في قانون الأسرة، لكنّه في نفس الوقت اعتبر العرف من الأوضاع المحكّمة، ولا شكّ أن قضايا الأسرة والأحوال الشخصية هي أشدّ القضايا التي تحكّم فيها الأوضاع العرفية المتشبثة بالتعاليم الإسلامية، ومعلومٌ أنّ العرف القائم في بلادنا منذ قرون هو عقد الوليّ بعبارته لا بعبارة مولّيته، فينبغي أن يكون ذلك معتبراً في وضع القانون.
لذلك نرى من الواجب تعديل هذه المادة إلى مفهوم أدقّ، وصياغة معبّرة على ذلك، كالقول: (ينعقد الزواج بتبادل الصيغة الدالة على الرضا بين الزوج ووليّ الزوجة، وتعبّر الزوجة عن رضاها وإذنها لوليّها، كما يدلّ على هذا الإذن توقيعها في العقد).
وقد كانت المادة الأصلية في قانون 1984م قريبة من هذه الصياغة أو مجملة لها، وهي قول المشرّع: (يتم عقد الزواج برضا الزوجين، وبولي الزوجة، وشاهدين وصداق).
وأكّدت ذلك المادة 11 الأصلية في قانون 1984م، ونصّها: (يتولّى زواج المرأة وليّها، وهو أبوها، فأحد أقاربها الأولين، والقاضي ولي من لا ولي له).
فهاتان المادتان منسجمتان مع أحكام الشريعة في جعل الولي عاقداً، لا مجرّد حاضر.
الملاحظة الثانية: ما الذي يجب توفره في عقد الزواج؟
تنص المادة (9 مكرّر) من قانون الأسرة الجزائري المعدل والمتمم بالأمر رقم 05-02 المؤرخ في 27 فبراير 2005م على الآتي: (يجب أن تتوفر في عقد الزواج الشروط الآتية: أهلية الزواج، الصداق، الولي، شاهدان، انعدام الموانع الشرعية للزواج).
فالملاحظ على هذه المادة أنها خلطت بين الأركان والشروط وانتفاء الموانع، وسمّت جميع ذلك شروطا، وهذا بعيد عن دقة الدلالة الاصطلاحية للألفاظ، فإنّ الركن جزءٌ من ماهية العقد، أمّا الشرط فخارجٌ عنها، والركنية مقتضاها عدم الانعقاد أصلا حال انتفاء الركن، أمّا الشرطية فمقتضاها الانعقاد، مع تخلّف الصحة حال تخلّف شرطها، وثمرة الفرق أن تخلّف الشرط إذا استُدرك صحّ العقد، أما تخلّف الركن فلا يستدرك، بل يُستأنف العقد من جديد.
وانتفاء الموانع قسيم لتوفر الشروط، لا جزء منها.
وصياغة المادة المذكورة دون هذا التفريق؛ مع قرن الولي بالصداق والشاهدين، وجعله في المرتبة الثالثة ذكراً، يُفهم منه أنّ الوليّ شرطٌ لا يبطل عقد النكاح بتخلّفه كما لا يبطل بعدم تسمية الصّداق، وكما لا يبطل بعدم الإشهاد إذا حصل الإعلان، بينما الحكم في مذاهب الجمهور، ووفقاً للعرف المتمسِّك بالمذهب المالكي الذي جرى عليه العمل في بلادنا، خلاف ذلك.
فلذلك نرى من الواجب تعديل المادة إلى صياغة صحيحة، كالقول:
(لا يصحّ عقد الزواج إلا بتوفر الأركان والشروط وانتفاء الموانع، وهي كالآتي:
* الأركان، وهي: الولي، المحل (الزوج والزوجة)، الصيغة (الإيجاب والقبول).
* شروط الصحة، وهي: الصداق، شهادة رجلين عدلين، عدم التواطؤ على كتمان العقد.
* انتفاء الموانع، وهي: كون الزوج غير مسلم، كون الزوجة غير مسلمة ولا كتابية، كون المرأة محصنة بزوج، المحرمية بنسب أو رضاع أو صهر، الزيادة على الأربع، الجمع المحرَّم، النكاح في العدة، نكاح الملاعَنَة، نكاح المطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى، النكاح حال الإحرام، النكاح حال الحمل والاستبراء).
أمّا الشروط الواجب توفرها في الأركان، فيفرد لكل ركن من أركان الزواج مادة تبيّن شروطه، بعد هذه المادة.
الملاحظة الثالثة: من هو الولي؟
تنص المادة (11) معدل، من قانون الأسرة الجزائري على الآتي: (تعقد المرأة الراشدة زواجها بحضور وليّها وهو أبوها، أو أحد أقاربها، أو أيّ شخص آخر تختاره). وهذه المادّة تتضمّن اختلالين في التوافق مع أحكام الشّريعة الإسلامية، وهما:
الأول: جعل المرأة هي العاقدة لا وليّها.
وقد سبق التنبيه أنّ ركن الوليّ لا يُستوفى إلاّ بأن يكون الوليّ هو العاقد في مذاهب جمهور الفقهاء، ومنها المذهب الذي جرى عليه العرف والعمل في بلادنا وهو المذهب المالكي، وجعل الوليّ حاضراً لا عاقداً يؤول إلى الشكلية. أمّا جواز عقد المرأة على نفسها عند الحنفية فهو مقيّد باشتراط الكفاءة حقًّا للمرأة ولأوليائها.
الثاني: أنّ الأولياء غير مرتّبين مطلقاً.
إنّ المذهب المالكي الجاري عليه عمل قطرنا الجزائري منذ قرون، لا يعدّ ترتيب الأولياء شرطاً في الصحة، ولكن يعدّه واجبًا، والإخلال به ابتداءً غير جائز، لكنّ عدم الشرطية مخصوصٌ بالأولياء غير المجبرين، أمّا في وجود الوليّ الذي له حقّ الإجبار، وهو حقٌّ يثبت عند المالكية للأب ثمّ وصيّه بشروط، في الصغيرة وفي البكر، فإنّ الولاية لا تخرج عنه إلى غيره. قال الصاوي: (وأمّا لو عقد النّكاح بالولاية العامّة مع وجود المجبر؛ كان النكاح فاسدًا، ويُفسَخ أبدًا، ولو أجازه المجبر) [حاشية الصاوي: 2/361 (ط دار المعارف د.ت)].
كما فرّق المالكية بين الولاية الخاصّة: وهي ولاية الأب ووصيّه، ثم العصبات، والكفيل، والحاكم الشرعي، وبين الولاية العامة: وهي ولاية كلّ رجل من المسلمين. وقالوا: لا يصحّ النّكاح بالولاية العامّة مع وجود الوليّ الخاص إلاّ بشرطين: أن يكون الولي الخاصّ غير مجبر. وأن تكون المرأة ممّن لا تلحقها معرّة بالتزويج بالولاية العامّة، بأن تكون غير ذات جمال، أو مال، أو حسب، أو نسب، فمن كانت ذات خصلة من هذه الخصال، لا يصحّ نكاحها بولاية عامّة، مع وجود الولي الخاص. [انظر: المرجع السابق]. ولقد كانت المادة الأصلية في قانون 1984م مراعيةً لعدم الوقوع في هذين الاختلالين، فكان نصّها: (يتولّى زواج المرأة وليّها، وهو أبوها، فأحد أقاربها الأولين، والقاضي ولي من لا ولي له).
أمّا رأي القانون المعدّل هنا؛ فهو تلفيقيٌّ مرّةً أخرى بين نفي ولاية الإجبار، ونفي شرطية الترتيب بين الأولياء نفياً مطلقاً، ونفي وجوب هذا الترتيب، فقد خيّر القانون المرأة التي أسند العقد إليها بين أن تُحضِر أباها، أو قريباً لها، أو أيّ شخص آخر تختاره، ليكون وليًّا لها. وهذا التلفيق خروج عن النسق التشريعي الذي رعاه كلّ مذهب في مقاربته الاجتهادية. فإذا قيل: إنّ قانون الأسرة المعدّل سنة 2005م سائرٌ على مذهب الحنفية في عدم اشتراط الولي، قلنا ما قلناه سابقا: إنّ عدم اشتراط الوليّ مقيّد باشتراط الكفاءة، مع كونه مخالفاً لما جرى عليه العرف في بلادنا من العمل بمقتضى المذهب المالكي، ونضيف: إذا كان القانون سائراً على مذهب الحنفية وجب التصريح به ليعرف الشعب الجزائري ذلك بوضوح، وحينها لا يكون لاشتراط حضور الوليّ كما ذُكر في المادة القانونية أعلاه أيّ أثر على العقد، إنما تتأكّد شكليته كما سبق التنبيه.
الملاحظة الرابعة: ما هي الأحوال التي يعد فيها الولي ركنا في الزواج؟
نصت المادة 33 معدل على ما يلي: (… إذا تم الزواج بدون شاهدين أو صداق أو ولي في حالة وجوبه يفسخ قبل الدخول ولا صداق فيه، ويثبت بعد الدخول بصداق المثل).
والعبارة محلّ التدقيق هي قوله: (أو وليّ في حالة وجوبه)، ومعناها أنّ الولي إنّما يجب في حالة دون حالة، وبالنظر في جملة مواد القانون المعدّل؛ نجد أنّ الحالة الوحيدة المصرّح فيها بتولية الزواج وليّاً للمرأة هي حالة كونها قاصراً، أي دون السنّ القانوني المحدّد بـــ 19 سنة في المادة (7) معدّل، مع نفي ولاية الإجبار عن الأب في بنته القاصر في المادة (13) معدّل.
فأثبت القانون للوليّ حقّ تولّي زواج بنته القاصر بشرط رضاها في المادة (11) معدّل بقوله: (يتولّى زواج القُصّر أولياؤهم وهم الأب، فأحد الأقارب الأولين، والقاضي ولي من لا ولي له).
فيتضح بذلك أنّ قوله في المادة 33 معدّل: (أو وليّ في حالة وجوبه) يقصد بها حال كون المرأة قاصراً، إذا تمّ الزواج بدون وليّها، يفسخ قبل الدخول … إلخ، أمّا حال كونها راشدة، فإنّ زواجها بدون وليّ لا يستلزم فسخًا لا قبل الدخول ولا بعده. وهذا يؤكّد ما ذكرناه آنفا أنّ المشرّع في هذا التعديل لا يعدّ الوليّ حال كون المرأة راشدة ركنا في النّكاح، بل يعدّ حضوره استئناسياً. وهذا مخالفٌ لما جرى عليه العمل والعرف في بلادنا من ركنية الوليّ في عقد النّكاح، سواء كانت المرأة صغيرة أو بالغة، تشبُّثا بما عليه جماهير الفقهاء، ومذهبنا المالكي. وقد كانت المادة (11) الأصلية في قانون 1984م معبّرة عن التمسّك بمرجعية المذهب المالكي، وهي قوله: (يتولّى زواج المرأة وليُّها، وهو أبوها، فأحد أقاربها الأوّلين، والقاضي وليّ من لا وليّ له). فجعل الولاية على المرأة مطلقا دون تقييدها بالقاصر.
المقدمة الثالثة: ملاحظات على صفة إجراء العقود من الناحية العملية
بناءً على ما تم بيانه من وجود اختلال في بعض مفاهيم وصيغ المواد القانونية من حيث مطابقتها للشريعة الإسلامية، فإنّ هذه الاختلالات ستنعكس حتميًّا على الواقع العملي ولو في بعض الحالات، فإذا سوّغ القانون للمرأة أن تحضِر أيّ شخص تختاره من أحد أقربائها أو من غير أقربائها لعقد نكاحها، فهذه السواغية القانونية لا بدّ أن تتجسّد عمليًّا في الواقع الاجتماعي في حالات تقلّ أو تكثر، فينتقل بذلك الاختلال من ساحة القانون إلى ساحة الفعل.
وفي حالات أخرى، حيث يتمسّك المجتمع بمرجعيته الوطنية المتمثّلة في المذهب المالكي، قد يقع الخلل في صفة إجراء العقود في البلديات وفقا للأركان والشروط المطلوبة، لا عن قصد، ولكن عن جهل أو عدم ضبط للصفة المطلوبة، فإنّ المشاهَد في الواقع أنّ صفة إجراء عقود الزواج في البلديات تختلف من بلدية لأخرى، ولا تجتمع تلك الصفات إلاّ في ملء وثيقة العقد مع التوقيع من طرف الزوج والزوجة. ومن الاختلالات الملاحظة في صفة الإجراء، حتى عند الرغبة في الالتزام بالمرجعية الشرعية الوطنية، ما يلي:
الملاحظة الأولى: إقامة الكتابة مقام الإيجاب والقبول.
نصّت المادة 10 من قانون الأسرة الجزائري على الآتي: (يكون الرضا بإيجاب من أحد الطرفين وقبول من الطرف الآخر، بكلّ لفظ يفيد معنى النّكاح شرعًا. ويصحّ الإيجاب والقبول من العاجز بكلّ ما يفيد معنى النكاح لغة أو عرفا كالكتابة والإشارة).
فتضمنت هذه المادة أمرين اثنين:
* الأول: أنّ الإيجاب والقبول لفظيان.
* الثاني: أنه لا يصحّ المصير إلى الكتابة أو الإشارة إلاّ عند العجز.
وهذا متوافقٌ مع أحكام الشّريعة الإسلامية باتفاق عامة الفقهاء، أنّ القادر على النطق إذا كان حاضرًا في مجلس العقد لا ينعقد نكاحه بالكتابة عند الحنفية والمالكية والحنابلة في الصحيح والشافعية في المذهب.
[انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 3/12، التوضيح لخليل: 3/109-110 (ط دار ابن حزم 2012م)، الشرح الصغير: 2/350، مغني المحتاج: 4/230 (ط دار الكتب العلمية 1994م)، الإنصاف: 8/50 (ط دار إحياء التراث العربي)].
ويلحظ أيضًا أنّ المادة (18) معدّل قرّرت أنّ عقد الزواج (يتمّ أمام الموثّق أو أمام موظّف مؤهّل قانونًا، مع مراعاة ما ورد في المادتين 9، و9 مكرّر من هذا القانون).
والمادة (9) هي قوله: (ينعقد الزواج بتبادل رضا الزوجين)، والمادة (9) مكرّر هي قوله: (يجب أن تتوفّر في عقد الزواج الشروط الآتية: أهلية الزواج، الصداق، الولي، شاهدان، انعدام الموانع الشرعية للزواج).
والمفهوم من الإحالة على مراعاة هاتين المادتين، هو مراعاة الصّيغة اللفظية، ومراعاة الأركان والشروط، وهذه الإحالة على هذه المراعاة جيدة، لكن مع الأخذ بالتعديلات المقترحة على المادتين 9، و9 مكرّر، كما سبق بيانه.
وفي ضوء هذا المفهوم؛ فإنّ ما يكتب في توثيق عقد الزواج من مثل قول الموثّق بعد ذكر بيانات الزوجين والولي: (وفق المنهاج الشرعي على كتاب الله وسنة نبيه، بمحضر وليّها الشّرعي على مهر معلوم بينهما، زوّجها منه بمحضرها ورضاها)، وما يكتب في مستخرج عقد الزواج من قول ضابط الحالة المدنية: (وقد أعلن باسم الشريعة ارتباطهما بالزواج)؛ يفترض أنّه يدلّ على تحقّق القائم بالعقد (الموثق أو ضابط الحالة المدنية) من توفّر أركان الزواج وشروطه، وانتفاء موانعه، ومن ذلك أهلية الزوجين، وصفة الوليّ الشرعي، وإجراء الصيغة بعبارته، وبألفاظها الصحيحة، ومن أهلية الشهود للشهادة، واستماعهم للصيغة، وغيرها من الشروط، إذ لا بدّ من تحقيق مناط الأركان والشروط في الواقع، ولا بدّ لها من محقّق، وقد أحيل ذلك على الموثق، أو ضابط الحالة المدنية.
لكنّ الملاحظ من الناحية الإجرائية في بعض الحالات أنّ الموثّق أو الضابط لا يجري الصيغة اللفظية، إنما يكتفي بتلاوة العقد بعد ملء بياناته، والمكتوب في العقد ممّا يُتلى هو إخبارٌ برضا الزوجين بدلالة الحضور والتوقيع، وموافقة الولي بدلالة الحضور أيضا، لا بدلالة الصيغة اللفظية إن لم يتمّ إجراؤها، نعم يُعدّ حضور المرأة ووليّها والزوج إلى مجلس العقد في البلدية دليلا بيّناً على إرادة النكاح، ولكن التعبير عن تلك الإرادة لا يبلغ مداه إلاّ بالصّيغة اللفظية، فإنّه يُتصوّر في أحوال محتملة ألاّ يكون العاقد (الولي أو الزوج) عالماً بأنّه يعقد عقد زواج، ويتصوّر عدم وعيه بالمكتوب، ويتصوّر تضليله بمجرد التوقيع، وغير ذلك ممّا يحسم بالصيغة اللفظية.
قال خليل: (النّكاح لا بدّ فيه من الشهادة، ولا يمكن إلاّ مع التصريح من الوليّ والزوج، ليقع الإشهاد عليهما) [التوضيح: 3/111].
وفي اشتراط الصيغة اللفظية تمييز لعقد النكاح عن بقية العقود، لخطورة محلّه، وعظيم شأنه في الشريعة الإسلامية، والتساهل في ذلك يستتبع تساهلات أخرى، قد تنتهي بإفراغ عقد النكاح من هيبته وجلالته وشأنه العظيم في الشريعة الإسلامية، حتى يصبح كأي عقد من عقود الناس.
الملاحظة الثانية: التساهل في صفة الشهود وصفة الشهادة
مع أنّ توثيق العقد وتسجيله في سجّلات الحالة المدنية يحصل به غرض التوثيق الذي هو مقصد الشهادة، ولكن الواجب عدم التساهل في صفة الشهود بأن يستوثق الموثّق من حالة الشهود أنهم يتمتعون بالسلامة الدينية والأخلاقية، وأن يلزمهم بصفة الشهادة المطلوبة، المتمثّلة في الاستماع لصيغة العقد وفهمها، ولا يكتفي منهم بمجرد التوقيع على الوثيقة.
الملاحظة الثالثة: نقص أو عدم التأهل الشرعي للموثق أو ضابط الحالة المدنية
على ضوء ما سبق ذكره يتبيّن أنّ إجراء عقود الزواج على الصفة المطلوبة شرعاً يتطلّب تأهّلا كافياً في الجانب الشّرعي للقائم بالعقد، وقد نصّت المادة 18 معدّل سابقة الذكر أنّ عقد الزواج: (يتمّ أمام الموثّق أو أمام موظّف مؤهّل قانونًا). أمّا الموثق فهي وظيفة يتأهّل لها المتحصّل على شهادة الليسانس في الحقوق (وهي تكوين جامعي مدّته ثلاث سنوات)، وشهادة الكفاءة المهنية في التوثيق (وهي تكوين مدته سنة واحدة). وكلا التكوينين لا يقرّر فيهما من المادة الشرعية إلاّ اليسير من المواد، ومن الحجم الساعي المخصّص لها، ما يعني أنّ تأهّل الموثق في الجانب الشرعي قد يكون ناقصًا نقصًا فادحًا.
وأمّا ضابط الحالة المدنية فهو بحسب قانون الحالة المدنية: رئيس المجلس الشعبي البلدي، ونوّابه، أو من يفوّضونه من الموظفين لهذا الغرض، وهؤلاء جميعا لا يشترط القانون فيهم تخصُّصا شرعيا، ولا حقوقيا، وغاية ما اشترطه قانون الانتخابات في المادة 176: (أن يكون لثلث (1/3) مترشحي القائمة، على الأقل، مستوى تعليمي جامعي).
[انظر: الأمر رقم 21-01 المتضمن القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات، الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ: 26 رجب 1442ه الموافق 10 مارس 2021م، العدد17، ص25-26].
ما يعني أنّ التأهّل الشّرعي لضابط الحالة المدنية قد يكون منعدمًا تمامًا.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا شكّ أنّ إجراء عقود الزواج من الناحية العملية على الصّفة المطلوبة شرعًا معرَّضٌ لكثير من الاختلالات من طرف القائمين عليه، بحكم عدم تأهلهم الشرعي أو نقصه نقصًا فادحًا.