يحسب كثيرٌ من المنتسبين إلى الجامعات، سواء كأعضاء في هيئات التدريس، أو طلاّباً في مرحلة الدراسات العليا؛ أنّهم بهذا الانتماء المبدئي يُصبحون من فئة الباحثين بصورة تلقائية، وأنّ بإمكانهم أن يمارسوا البحثَ العلميَّ ببساطة، وأن تُقبل منهم ممارساتهم تلك -إن وُجِدَتْ-، وتُدْرَجَ ضمن الأبحاث العلمية المعتبَرة. والحقّ أنّ هذا التصوّر خاطئ، وبعيدٌ تماماً عن الحقيقة، فليس كلّ من يتولّى التدريس في الجامعة هو باحثٌ حقًّا، وليس كلّ من يحمل بطاقة باحث أو طالب في الدراسات العليا يستطيع أن يكون باحثًا فعلاً.
حقيقة البحث العلمي وخصوصيته:
الانتماء لميدان البحث العلمي؛ لا يُكتسب بمجرّد الحصول على شهادة جامعية، أو بمجرّد التسجيل في قائمة الباحثين على مستوى جامعة معيّنة، وإنّما هو استعدادٌ نفسيٌّ أوّلاً، ثمّ تحقُّق عمليٌّ بجملة من الصّفات والمؤهّلات ثانياً، ومن دون ذلك تبقى صفة الباحث مجرّد شعار زائف يُوهمُ كثيرٌ من الناس أنفسَهُم باستحقاقه.
والبحث العلميّ لا يتحقّق بإعداد رسالة جامعية للحصول على شهادة ماجستير أو دكتوراه، أو إنجاز مقالة بقصد الحصول على ترقية من رتبة إلى رتبة أعلى منها، وإنما هو اتخاذ البحث والتنقيب والاكتشاف والإبداع والترقي في مدارج العلم والمعرفة وظيفة يومية وممارسة حياتية، ونقل نتائج ما يصل إليه الباحث من ذلك إلى غيره من طلاّب العلم والمعرفة وسائر أبناء المجتمع، بل وسائر أفراد النوع الإنساني، عن طريق الكتابة والتأليف أو الصناعة والاختراع.
والبحث العلميّ بهذا المعنى لا يصلح له كلّ من تَزَيَّى بزيِّه، أو تلبَّسَ بشعاره أو ادَّعَى الانتماء إلى ميدانه، وإنّما يصلح له القليل ممّن يستوفون شرائطه، ويُحَصِّلون المؤهّلات التي تُـخَـــوِّلُ لهم الانتماءَ إلى أهله.
وهذا ما يفسّر كثرة الأساتذة الجامعيين وطلبة الدّراسات العليا من جهة، وقلّة الباحثين منهم من جهة أخرى. والواقع الـمُشَاهَد خيرُ دليلٍ على ذلك، فما أكثر الأساتذة الجامعيين الذين قضوا سنوات طويلة في حقل التدريس، ولم ينتجوا خلال مسيرتهم تلك سوى مقالة أو مقالتين بغرض الحصول على الترقية لا غير، دون أن يكون في تلك المقالة أو المقالات أيّ نفع للطلاّب والمجتمع، أو إضافة إلى رصيد العلم والمعرفة، أمّا أن ينجزوا مؤلّفات رائدة، أو بحوثا جادّة، أو مقالات نافعة، فهذا ما لم يحقّقه إلّا القلّة النادرة من الباحثين الحقيقيين.
ولعلّ سائلاً يسأل فيقول: ما هي الصّفات التي يجب أن تتوفّر في الشخص حتّى يمكنه أن ينتمي إلى فئة الباحثين؟ وما هي المؤهّلات التي عليه أن يُحَصِّلها حتى يُمْكِنَه ممارسة البحث العلمي والنبوغ فيه؟
والجواب على ذلك، كما يلي:
الصفات الضرورية للباحث:
هناك جملة من الصفات النفسية التي لا يُتصوّر أن يَتَّسِمَ الإنسان بصفة الباحث إذا لم يتحلَّ بها أو لم يحرص على أن تتحقق فيه، ومنها:
1/ الازدياد المستمرّ من العلم والمعرفة:
فالإنسان الذي لا يعنيه من العلم والبحث العلمي سوى الحصول على شهادة جامعية تؤهّله للحصول على منصب عمل، لا يمكنه أبدًا أن يصبح باحثًا أو ينتمي إلى زمرة الباحثين. ذلك أنّ البحث العلميَّ تطلُّعٌ مستمرٌّ إلى زيادة المعرفة، وتعطّشٌ دائمٌ إلى اكتشاف المجهول، وسلوكٌ للسُّبُل التي من شأنها أن تقود إلى ذلك. والإنسان من هذا الطراز هو من لا يكفُّ عن الاطّلاع، ولا يتوقّف عن القراءة، وليس لطموحاته إلى الازدياد من العلم والمعرفة حدود، ولا تقف دونها سدود، ولا تمنعها من الوصول إلى بغيتها قيود.
2/ طرح الأسئلة حول ما يواجهه من ظواهر وما يدور في ذهنه من خواطر:
ذلك أنّ تعامل الإنسان باللامبالاة وعدم الاهتمام تجاه ما يلاحظه من ظواهر غير معهودة وما ينقدح في ذهنه من تساؤلات لا يعرف أجوبتها، من شأنه أن يصيبه بالبلادة، ويجعله يميل إلى الكسل العقلي، وترك البحث وعدم الاهتمام باكتشاف الأسرار الخفية للظواهر، وكذا الاستخفاف بالأسئلة التي تنقدح في الذهن والاستهانة بمعرفة أجوبتها. ونتيجة كلّ ذلك أن يصبح الإنسان، وهو أستاذ جامعي أو طالب دراسات عليا؛ محسوب على العلم وأهله، مجرّد عاميّ يعيش على التَّوَهُّمِ مرحلة طفولة علمية، لا علاقة لها بالبحث العلميّ لا من قريب ولا من بعيد.
يُضاف إلى ذلك ما قد يرين على ضميره من تراكمات أخرى، لا صلة لها بأسباب البحث الذي تتحكّم فيه سلطة المناهج والمعايير الأكاديمية السائدة، تلك التراكمات غير المجدية التي تصيبه بالبلادة، وتجعله يميل إلى الكسل العقلي، والخلود إلى الراحة المطلقة، والاستسلام إلى ترك النشاط العلمي، وعدم الاهتمام بالتحصيل والحرص على المتابعة، والإعراض عن خوض غمار البحث ومعاناة متاعبه، وكلّها من المثبّطات التي تقتل روح الإبداع، وتصرف الهمم عن الطموح، وتجعل بينها وبين السعي الفكري والاطلاع سَدًّا منيعًا وحجابًا مستورًا.
3/ الصبر واستسهال الصعاب:
البحث العلميّ في الواقع من أصعب الأعمال وأشقّها وأحوجها إلى بذل الكثير من الجهد واستفراغ ما أمكن من وُسْعٍ، ويتطلّب ممّن يقتحم عالـمَه الواسع أن يتسلّح بالطاقة الكافية، والصّبر المطلوب لمواجهة الصّعاب والعقبات الـمُتَوَقَّعَة على طول قارعة البحث. فالبحث العلميّ بما أنّه اقتحامٌ للمجهول، وسعيٌ إلى كشف خباياه، لا يتيح للإنسان أن يصل إلى بُغيته من أقصر طريق أو في أول محاولة، بل إنّه ليتمنّع عليه ويرهقه، ولا يمكّنه ممّا يطلب حتى يختبر صدقه وإخلاصه، ومع ذلك لا يُسعفه بما يريد إلاّ بعد البلاء المبين، والثبات في ميادين البحث، دون أن يطأطئ رأسه للعواصف والأعاصير، ويُقَدِّمُ في هذا المجال ضريبة العلم، وهي ضريبة من نوع آخر لا يستطيعها إلا الباذلون بسخاءٍ جهدَهم ووقتَهم وأنفاسَهم، ولا يعنيهم بعد ذلك سوى الغاية التي راهنوا على تحقيقها بوساطة الإرادة التي لا تلينُ لها قناة، بَلْهَ العزائم الصادقة التي جعلتهم يتجاوزون شيئا فشيئا العقبات الكؤود التي تقتضيها بدايات البحث، ثم تتضح معالم الطريق بعد زوال العتمة الحالكة، وتلاشي غبش الصبح الذي يأخذ في التراجع رويدًا رويدًا، ليفسح المجال ليوم جديد. وبما أنّ الأمر كذلك فإنّ الصّابرين الذين يتحمّلون صعوبة المهمّة، ويكابدون كثرة المحاولة، ويقبلون قلّة المحصول: قليلون، بل نادرون.
4/ التواضع والاستفادة من أيٍّ كان، وعدم التعالي على النقد:
فلا يمكن أن ينتمي إلى ميدان البحث العلمي، أو يفلح فيه إلاّ من كان متواضعاً، ليّناً بعيدًا عن الغرور والغطرسة الزائفة والاستعلاء الكاذب، مستعدًّا لاستفادة المعرفة وأخذها من أيّ كان، بل حريصًا على تلقّف الحكمة من حيث جاءت، لا يجد في نفسه حرجًا على تقبّل النقد من الآخرين، حتّى وإن كان مصحوبًا بإيحاءات الاستفزاز والتحامُل، ولا يرفض النصيحة من أهل الخبرة والعلم، بل يتقبّل ذلك قبولاً حسنًا، طالما أنّه لا يتعارض مع الحقّ، ولا يتناقض مع أصول العلم الصحيح، أو يتنافى مع قواعد المعرفة اليقينية التي تعتبر عند الجميع مسلّمةً من المسلّمات المتفق عليها.
5/ الأمانة العلمية:
والأمانة في العلم ليس المقصود بها مجرّد نسبة الأقوال إلى قائليها، أو إحالة النصوص المقتبسة إلى مصادرها، فهذا يمثّذل الصّورة المثلى للأمانة العلمية التي تفرضها السلطة الصارمة لتطبيقات المناهج الأكاديمية، وتتعامل بها شتّى الجامعات في مختلف أنحاء العالم، أمّا جوهرها فهو الصّدق في طلب العلم والإخلاص للمعرفة والحقيقة، والحرص على خدمة العلم والمجتمع، ونفع الناس بمردودية الأبحاث المثمرة. والإنسان الذي لا يتحلّى بهذه الصّفة، ولا يستشعرها في نفسه، ولا يرى جدوى من ضرورتها في اشتغاله بالعلم والمعرفة، لا يمكنه أن يصبح باحثاً أو ينتمي إلى دائرة البحث العلمي بمعناه الصحيح.
6/ التجرد والاحتساب ونشدان الحقيقة الخالصة:
فالبحث العلميّ لا يقبل بطبيعته أن يكون وسيلة إلى تحقيق مأرب ماديّ، أو الحصول على مَجْد شخصي، فهو يتطلّب ممّن يدخل عالمه أو يصبو إلى الانتماء إلى منسوبيه؛ التجرّدَ من المآرب الشخصية، والتحلّي بروح الاحتساب، وابتغاء الوصول إلى المعرفة، واكتشاف المجهول، والإضافة إلى الخبرات العلمية المتراكمة. أمّا من يريد أن يتّخذ البحث العلميّ وسيلةً إلى غاية مادّية أو مأرب شخصي، فلا يلبث أن يجد نفسه خارج ميدانه وبعيدًا عن مجاله، لأنّ البحث العلمي بطبيعته يرمي به بعيداً، ولا يسمح له بالبقاء في مجاله أو ضمن دائرته.
7/ استثمار الفرص المُشَجِّعَة على البحث:
بما أنّ العمل في ميدان البحث العلميّ صعبٌ وشاقّ، ويتطلّب صبراً واحتساباً، فإنّ الباحث يحتاج إلى مُحَفِّزات ومُشَجِّعَات تُعينُه على الـمُرابطة في هذا الميدان ومواصلة الانتماء إلى أهله، ولذلك فهو حريصٌ على انتهاز كل فرصة أو مناسبة من شأنها أن تمكّنه من ذلك. ومن هذه الفرص والمناسبات:
* المشاركة في المؤتمرات العلمية بتقديم البحوث والمداخلات الجادة.
* الاشتراك في تأليف الكتب الجماعية بتدبيج المقالات الرصينة المجدية.
* التقدم بالإسهامات العلمية والمشاركة في المنافسات الجادة التي لها صلة بتطوير البحث العلمي والإضافة إلى ذخائره، بَلْهَ الجوائز العلمية والتقديرية التي تعلن عنها المؤسّسات المشجّعة للبحث العلمي.
* تقديم محاضرات ضمن ندوات أو حوارات في موضوعات شائكة تمليها قضايا الراهن، ويفرضها الشأن العامّ، وتتطلب حلولا فورية، وإجابات حاسمة من طرف العلماء وأهل الرأي في النقاش الدائر حولها …
مؤهلات الباحث لممارسة البحث العلمي:
تلك أهمّ الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان إذا ما أراد أن ينتمي إلى ميدان البحث العلمي، وأن يحظى بشرف الانتساب إلى أهله وذويه. لكن هذه الصفات وحدها، وإن كانت ضرورية، إلا أنها لا تكفي وحدها لتصنع منه باحثا، بل لابد أن يُحَصِّلَ إلى جانبها جملة من المؤهلات التي تمكّنه من ممارسة البحث فعلا، وتحقيق نتائج تخدم العلم وتضيف إلى رصيد المعرفة الإنسانية وتنفع المجتمع والناس. ومن أهمّ هذه المؤهّلات، ما يلي:
1/ التخصص العلمي والتعمق فيه:
البحث العلمي ليس هواية يمارسها الإنسان في أوقات الفراغ، وإنما هو عملٌ جادّ وشاق، واقتحام لآفاق صعبة المسالك غير مطروقة، ويقتضي التسلّح بالمعارف الأولية الضرورية في ميدانه، وهذا يتطلّب ممّن ينتمي إلى عالم البحث العلمي في مجال معيّن أن يكون متخصّصا في هذا المجال، وأن يكون قد حصل على الحدّ الأدنى من التكوين العلمي فيه، إذ لا يُتصوّر ممّن يجهل المعارف الأساسية في مجال علمي معيّن أن يبدع فيه، أو يضيف إلى رصيده المعرفي شيئا، بل المتوقع أن يأتي فيه بما لا علاقة له به، وقديما قيل: «من تحدّث في غير فنّه أتى بالعجائب».ولا يكفي مجرّد التخصّص، فهذا هو الحدّ الأدنى، بل لا بدّ من التعمّق فيه، والحرص على بلوغ أسمى المراتب في مجاله.
2/ معرفة مصادر البحث في مجال التخصص:
وهذا أمرٌ بدهي؛ إذْ كيف يُتصوّر أن يلج إنسانٌ ما ميدان البحث العلمي في تخصّص معيّن، دون أن يكون له معرفة سابقة بمصادر البحث في هذا المجال، فضلاً عن الرصيد المعرفي الضخم الذي سبق للعلماء والباحثين أن قدّموه فيه. ولا تكفي مجرّد المعرفة السّطحية المتوقّفة عند معرفة عناوين الكتب وأسماء المؤلّفين، بل لا بدّ من الاطّلاع الفعليّ والتواصل العملي مع هذه المصادر، ومعرفة مضمون كلّ منها، وما ورد في ثناياها من مزايا ونقائص، أو ملاحظات ومتابعات نَصَّ عليها العلماء الأعلام الراسخون في العلم. وإنّه لغريبٌ وعجيبٌ ما رأيناه في هذا الزمان من إقبال كثير من الناس على اقتحام ميدان البحث العلمي في تخصّصات علمية، دون معرفة بمصادرها الأساسية، وما أنجزه العلماء السابقون فيها، فتجد أحدهم يريد أن يبحث في مجال معيّن وهو لم يقرأ في حياته كتاباً أو بحثاً، ولا حتّى مقالاً موجزاً ممّا كُتِبَ في هذا المجال! وهذا سرّ العجز الذي يعاني منه معظم طلبة الدراسات العليا حين يشتكون من عدم تمكّنهم من اختيار موضوعات جديرة بالبحث، ولو كانوا يقرؤون ويطالعون ويُنقّـــبُون لوَجَدَ كلّ واحد منهم في مجال تخصّصه عشرات الموضوعات التي تستحقّ البحث، ولم يطرقها غيرهم من الباحثين من قبل، إمّا كلّيا أو جزئيا.
3/ متابعة كل جديد في مجال التخصص:
إنّ الباحث الجادّ والجدير بصفة الباحث فعلاً، هو من يعرف الرصيد العلمي الـمُنْجَز في ميدان تخصّصه، لكنه لا يكتفي بذلك ولا يَخْلُدُ إليه، بل يضيف إليه متابعة كلِّ جديد مُفيد في هذا التخصّص، فتراه دائب السؤال عن الجديد، حريصًا على الحصول على كل ّكتاب أو بحث أو مقال يَظهر، مُهْتَمًّا بمعرفة مضمونِه وقيمتِه، مُطَّلِعًا ومُسْتَفِيدًا من الإضافة التي يحملها. وذلك ما يؤهّله لأن يكون مواكباً للتطوّر العلميّ في تخصّصه، إذا تحدّث كان حديثه عن علم، وإذا ناقش أو حاور أو ناظر كان كلّ ذلك عن رصيد مذخور ومعرفة واسعة، وإحاطة شاملة بما يزخر به ميدانه من تنوّع وثراء. أمّا من يتوقّف عن متابعة الجديد في ميدان تخصّصه، اغترارًا بما حصل عليه في مرحلة معيّنة، فهذا سرعان ما يتجاوزه الزمن ويسبقه الركب، ولا يلبث أن يجد نفسه على الهامش، يجهل أكثر ممّا يعرف، فلا يقوى على مجاراة غيره ممّن ظلّوا يواكبون حركة البحث العلمي، ويتابعون كلّ تطوّر وتجديد في ميدان التخصّص.
4/ الاطلاع على العلوم المكمِّلة للتخصص:
التخصّص العلميّ لا يعني الانكفاء على مجال علمي واحد، والنبوغ فيه وترك الاهتمام بغيره من المجالات. موقفٌ كهذا هو أيضا مصدرُ خَطَرٍ على الباحث، فالعلوم متكاملة فيما بينها، وجسور التواصل والترابط بينها قائمة، وخاصة تلك العلوم التي تنتمي إلى مجال علمي واحد في الأصل، ثم انفصل بعضها عن الآخر لما تكاثر الرصيد المعرفي المتراكم منها. ولذلك لا بدّ أن يكون الباحث على اطّلاع كاف على هذه العلوم القريبة من العلم الذي تخصّص فيه، وأن تكون له متابعة دائمة للجديد المفيد فيها، لأنّه لا يستغني عن تكملة رصيده المعرفي في تخصّصه ممّا قد يحتاج إليه منها، وقد يستخدم في أبحاثه التخصّصية بعض المعطيات المعرفية من هذه العلوم المكمّلة.
5/ الممارسة الدائمة للبحث وعدم التوقف عنه:
البحث العلمي ليس محطة معيّنة أو مرحلة محدّدة يمرّ بها الإنسان ثمّ ينتقل منها إلى غيرها، البحث العلمي ليس رسالة جامعية يحصل بها الإنسان على شهادة تمكّنه من الحصول على عمل، أو مقالة ينشرها ليحصل بها على ترقية إدارية. الأمر ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون كذلك أبدًا، بل البحث العلمي هو مسيرة متكاملة يبدؤها الإنسان منذ أن يَلِجَ عالـمَها إلى أن يطويه الموتُ أو يمنعه العجزُ المطلق. ولذلك فإنّ الباحثَ هو من يمارس البحثَ العلمي بصفة دائمة، بل يُصبح البحثُ بالنسبة له هاجسًا دائمًا، ووظيفةً يوميةً مثل الطعام والشراب والنوم والمشْي وغيرها من وظائف الحياة. ولذلك فإنّ من يمارس البحث العلمي لغاية معيّنة أو لغرض محدّد ثمّ تنقطع صلته بالبحث وتنتهي علاقته به، فهذا لم يكتسب صفة الباحث ولن يكتسبها أبدًا.
6/ الحرص على التجديد والإبداع في مجال البحث:
فالبحث العلميّ ليس تجميع ما سبق أن قدّمه الآخرون من العلماء والباحثين، أو إعادة تقديمه كما هو دون أية إضافة أو تجديد، ربّما يصلح هذا في البدايات الأولى، أي في مرحلة التدرب والمران على البحث وبواكير ممارسته، أمّا بعد ذلك فإنّ البحث العلمي هو التجديد والإبداع، ولسنا نعني بذلك الانقطاع عن الرصيد المعرفي السابق، وإنما الانطلاق منه فهمًا ونقدًا وتصحيحًا، ثم الإضافة إليه والإسهام في تطويره وإحيائه.
أخيرا، أقول لنفسي ولغيري ما قرّره الشاعر قديما:
دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا .. جَهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَــــوْا دُونَه الأُزُرَا
فَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ .. وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ أَوْفَى وَمَنْ صَبَرَا
لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ .. لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِـــرَا
فالبحث العلمي هو السبيل إلى المجد والعبقرية، ولن يحظى بهذا المجد إلاّ من قدّم ضريبته ودفع ثمنه وكابد مشقّاته واقتحم عقباته.
شارك المنشور على
Share this content