النّجاح في معناه العامّ هو تحقيق الأهداف المرسومة؛ فالإنسان الناجح هو من يضع لنفسه أهدافًا ويسعى لتحصيلها، ويتوصّل بالعمل والجدّ والاجتهاد إلى تحقيقها. أمّا الإنسان الفاشل فهو من ليس له أهداف أصلاً، أو له أهدافٌ ولكنّه يتمنّى تحقيقها دون أن يسعى لذلك، أو يسعى لتحقيقها ولكن من خلال طرق ووسائل لا توصله إليها.
هذا هو مفهوم كلّ من النّجاح والفشل بصفة عامّة، وهو في عرف أغلب النّاس في مجتمعنا وفي مختلف المجتمعات البشرية في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ ذو بعد دنيوي صرف، فالنّاجح في نظرهم هو من حقّق النّجاح في دنياه وعاش مستمتعاً به، والفاشل هو من لم يستطع تحقيق ما يريد في هذه الدنيا ولم يتمكّن من الاستمتاع به. أمّا المفهوم الأخروي للنجاح والفشل فهو مجهول أو متجاهَل أو مغفول عنه، بل هو ليس محلّ اهتمام عند معظم النّاس.
اختلاف الناس في المراد بالنجاح الدنيوي:
ثمّ إنّ النّاس بعد ذلك متباينون في تقدير النّجاح الدنيوي، حيث يختلفون في تحديده بحسب ما يهواه كلّ منهم وما يحبّه وما تميل إليه نفسه من متاع الحياة الدّنيا.
فالنّجاح بالنسبة لأكثر النّاس يتمثّل في تحصيل المال بمختلف صوره وأشكاله وأنواعه؛ من نقود سائلة، وحسابات بنكية، وعقارات من مختلف الأصناف، ومراكب من مختلف الأنواع، والاستمتاع بهذا المال إلى أبعد حدّ، وفي مختلف مجالات الحياة؛ أكلاً وشرباً ولباساً ومسكناً وزواجاً وسفراً وسياحةً وكلّ ما تحدث به النفس وتشتهيه، معتبرين المال وسيلة تفتح بها كلّ الأبواب. وفي هؤلاء يقول الله عزّ وجل: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
والنّجاح بالنسبة لفريق آخر من النّاس يتجلّى في الترقّي في مختلف المناصب من أدناها إلى أعلاها، تحقيقًا للجاه والسلطة والقوة، واتخاذ هذا الجاه وسيلة لتحصيل ما تطلب النفس وما تريد، معتبرين الجاه هو الوسيلة المثلى لتحصيل أيّ شيء، ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء لا يبالون في سبيل الوصول إلى هذه المناصب ببذل الأموال وسلوك كلّ الوسائل الممكنة مهما كانت وضيعة، ومهما كانت قدراتهم محدودة، ومهما كانت كفاءتهم ضعيفة. وهؤلاء هم الذين حدّث عنهم النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأخبر بظهورهم في الأمة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «إنّكم سَتَحْرِصُونَ على الإِمَارَة، وستكون نَدَامَةً يوم القيامة، فَنِعْمَ المــُــرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ» [رواه البخاري].
والنّجاح عند بعضٍ ثالثٍ هو اكتساب الشهرة، من خلال الرّياضة أو الفنّ أو السّياسة أو الإعلام، أو حتّى الدّين نفسه، معتبرين أنّ الشّهرة كفيلةٌ بأن تجلب لصاحبها كلّ ما يريد من مال وجاه وقوّة.
وهناك فئةٌ قليلةٌ ترى النّجاح في طلب العلم وتحصيل أعلى الشهادات العلمية، والوصول إلى أعلى المراتب العلمية، وتبوأ أرقى المناصب في المؤسّسات الجامعية والبحثية.
وهناك فئات أخرى ترى النجاح في مجالات أخرى غير هذه التي ذكرناها.
النجاح الدنيوي إما واقعي أو زائف:
إنّ هذا النجاح الدنيوي في أيّ مجال كان، ومهما بلغ فيه الإنسان ما بلغ، هو في الحقيقة إمّا نجاحٌ فعليٌّ مستحقّ لصاحبه في هذه الدنيا، أو هو نجاحٌ زائفٌ لا قيمة له، فهو أقرب إلى الفشل، بل هو سبيل الفشل إن عاجلاً أو آجلاً.
فالذي يحصّل المال بالطرق المشروعة ويحسن توظيفه واستثماره وصرفه في الأبواب النافعة ممّا يعود بالفائدة والنفع عليه وعلى أفراد المجتمع ككلّ، هو ناجح فعلاً. بينما من يكسب المال من الطرق غير المشروعة ولا يحسن استثماره وتوظيفه، بل يستعمله في الضّرر والفساد، ويبذره تبذيراً في أبواب الشرّ، هو فاشل وليس بناجح، ومصيره إلى فقدان هذا المال، والوقوع بسببه في أسوأ الأعمال.
والذي يترقّى في المناصب بكفاءة وجدارة واستحقاق، ويحسن توظيف منصبه في كلّ مرّة، في تحقيق الصّالح العامّ، وخدمة أفراد المجتمع؛ هو ناجحٌ فعلاً، ويستحقّ ما يتولّاه من مناصب. أمّا الذي يتّخذ من المنصب وسيلةً للتسلّط والظلم والابتزاز؛ فهو فاشل وليس بناجح، ومصيره إلى أن يُسلب منه منصبه، ويصبح بلا قيمة ولا معنى في المجتمع.
والذي يكسب الشّهرة من خلال ما يقدّمه من خدمات للمجتمعن وما يبذله من جهود لخدمة الصّالح العامّ، وما يسعى إليه من خير ونفع، هو ناجحٌ فعلاً، ومستحقّ لما يحصل عليه من شهرة. أمّا الذي يصل إلى الشهرة من الطّرق العفنة وبالوسائل القذرة فهو فاشل، حتّى وإن تصوّر نفسه ناجحًا، وحتّى وإن اعتبره النّاس جميعًا ناجحًا؛ لأنّ مآل هذه الشهرة إلى الزوال لارتباطها بالبهارج الكاذبة التي سرعان ما تذهب وتزول.
والذي يترقّى في مختلف مراتب العلم والمعرفة، ويحصّل أعلى الشّهادات بالجدّ والعمل والاجتهاد والبحث والتنقيب والتحصيل العلمي الرصين والمتين، ويوظّف ما تحصّل عليه من علم في صالح الأمة والمجتمع ونفع الإنسانية بوجه عام، هو إنسانٌ ناجحٌ فعلاً، ويستحقّ ما يناله من تقدير واحترامٍ من النّاس لعلمه ومرتبته. أمّا الذي يبني مساره العلمي على الغشّ والتلاعب، وينتقل من مرحلة علمية إلى التي تليها بمختلف أساليب المكر والاحتيال، ويترقّى في مراتب البحث العلمي بسرقة جهود الآخرين وبحوثهم ومؤلّفاتهم فهو فاشل؛ لأنّ مصيره إلى أن ينكشف أمره ويفتضح سرّه ويظهر جهله. ومثله من يستخدم علمه في ابتزاز النّاس والإضرار بهم، وتحقيق مصالحه الشخصية إرضاءً لأنانيته ونفسه الأمّارة بالسّوء، فهذا عالمٌ فاشلٌ ومآله إلى الفشل لا محالة؛ لأنّ العلم بلا أخلاق مآله الخسران والإخفاق.
هذا معنى كلٌّ من النجاح والفشل في هذه الحياة الدّنيا؛ فهل هو نفسه النّجاح في بعده الأخروي؟ وهل كلّ ناجح في الدنيا هو بالضرورة ناجح في الآخرة؟
النجاح الدنيوي لا يستلزم النجاح الأخروي:
إنّ هذا النّجاح الدنيوي، حتّى وإن كان فعليًّا وواقعيًّا، وتحقّق بطرق سليمة، إلاّ أنّه لا يعني أنّ صاحبه ناجح كذلك في الآخرة، فالنّجاح الدنيوي ينتهي بانتهاء الوجود الدنيوي لصاحبه، وهو نجاحٌ يستوي فيه النّاس جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.
فالمال يحصّله المؤمن والكافر، والمنصب يتبوّؤه التقيّ والفاجر، والشّهرة ينالها الصّالح والطّالح، والعلم الدنيوي والشهادات الدنيوية ينالهما كلّ من يسعى لهما مؤمناً أو كافراً، برًّا أو فاجرًا، صالحاً أو طالحاً.
ثمّ إنّ هذا النّجاح الدنيوي هو ممّا يندرج ضمن الرّزق المقسوم للإنسان في حياته الدنيوية، فهو حتّى وإن كان من كسب الإنسان إلاّ أنّ الفضل الأوّل والأخير فيه لله عزّ وجل، فهو الذي هدى الإنسان إليه ويسّر له أسبابه، وأذن له بتحصيله، ابتلاءً له به هل يشكر أم يكفر؟ قال سبحانه تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32].
النّجاح الدنيوي إذن نجاحٌ ظرفيٌّ مؤقّتٌ بوجود الإنسان في هذه الدنيا؛ إذْ بوفاته ينتهي كلّ شيء ولا يبقى منه شيء.
فما هو النجاح الحقيقي الدائم الذي يجب على الإنسان أن يحرص عليه ويسعى في تحصيله؟
هذا النجاح هو النجاح الأخروي الذي تُوضع أسسه وتُبنى أركانه في هذه الدنيا ويُنال جزاؤه في الآخرة.
وما ذلك إلاّ لأنّ هذه الحياة الدنيوية ليست حياة حقيقية دائمة، إنّها حياةٌ ظرفيةٌ سريعةُ الانقضاء، وهي مجرّد مزرعة لما بعدها، أمّا الحياة الحقيقية فهي الدائمة المستمرّة التي لا نهاية لها، وتلك هي الحياة الأخروية، قال الله تعالى: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64].
النجاح الحقيقي هو الفوز في الآخرة:
إنّ النّجاح المحصّل في الدنيا لا قيمة له في الآخرة، إلاّ إذا كان صاحبه مستحقّا للنجاح الأخروي. هذا النّجاح الأخروي لا يُنال بالمال ولا بالمنصب ولا بالشهرة ولا بالعلم، وإنّما يُنال بأمرين اثنين: الإيمان والعمل الصّالح، فمن عاش حياته الدنيوية مؤمناً عاملاً الصّالحات؛ فهو من النّاجحين في الآخرة، مهما كانت مكانتُه بسيطةً ومتواضعةً في الدّنيا. ومن عاش حياته الدنيوية كافراً أو مشركاً أو منافقاً غير عامل للصّالحات، فهو من الفاشلين في الآخرة، مهما حقّق من أمجاد ومهما بلغت مكانته في الدنيا.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 11]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)﴾ [لقمان: 8-9].
النجاح الحقيقي في طاعة الله وخشيته: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52]. النجاح الحقيقي في الحرص على عمل الصالحات وترك المنكرات، قال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾ [المؤمنون 1-11]. وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [التوبة: 20].
النّجاح الحقيقي يوم يخرج الإنسان من هذه الدنيا وهو يردّد بلسانه: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» [رواه أبو داود].
النجاح الحقيقي عندما يأتي المسلم يوم القيامة بصلاة تامة غير ناقصة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ؛ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» [رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
النجاح الحقيقي يوم يؤتى الإنسان كتابه بيمينه يوم القيامة، فيفرح، ومن شدّة فرحه يخبر النّاس من حوله معلناً أنّه كان في الدنيا موقنا بيوم الحساب، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾ [الحاقة: 19-24].
النّجاح كلّ النّجاح يوم يدخل الإنسان الجنّة ويُزحزَح عن النار، قال تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)﴾ [الكهف: 107-108].
الفشل الحقيقي هو خسارة الإنسان لآخرته:
والفشل الحقيقي والخسارة الفادحة هي خسارة الإنسان نفسه وأهله يوم القيامة، ودخوله النار والعياذ بالله: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15]. ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا((104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)﴾ [الكهف: 103-106].
هذه الخسارة أو هذا الفشل نتيجة لاختيارات الإنسان وأعماله في الدنيا:
فالكفر بالله سبب للخسارة: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [العنكبوت: 52].
والإعراض عن آيات الله وجحودها سبب للخسارة: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الزمر: 63].
ونقض العهود وقطع الأرحام من أسباب الخسارة: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 27].
والاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله وتضييع الواجبات الدينية من أسباب الخسارة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9].
الحرص على النجاح الأخروي لا يمنع العمل لتحقيق النجاح الدنيوي:
هذا، وإنّ حرص المسلم على النّجاح والفوز في دينه وآخرته لا يعني أبداً التكاسل في طلب نجاحات الدنيا الصالحة الممكنة، بل سعي المسلم إلى نجاح الدنيا أمرٌ مطلوب، قد يصل أحياناً إلى درجة الفرض العيني أو الكفائي، لكن هذا السعي لا بدّ أن يُبتغى به وجه الله وأن يكون المقصود منه طاعة الله وخدمة دينه ونفع عباده والتمكين للخير ومحاصرة الشر وتضييق دائرته.
فالمال الصّالح في يد الإنسان الصّالح نعمة عظيمة، قد قال النّبي ﷺ: (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِح) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم، والبيهقي] … والمنصب النافع في يد الإنسان المؤمن التقيّ سبب إلى خير عظيم يعود على البلاد والعباد، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (سبعةٌ يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: الإمام العادل …) [رواه البخاري]. والشهرة إذا تحقّقت لإنسانٍ تقيٍّ كانت سبباً لأن يتبعه النّاس ويقتدوا به في عمل الصّالحات، قيل لرسول الله ﷺ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟ قال: (تلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المـُؤْمِنِ). والعلم النافع في قلب الإنسان المؤمن التقيّ بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير للأمّة والمجتمع والإنسانية بصفة عامّة، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله ﷺ: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). ثمّ قال رسول الله ﷺ: (إنّ الله وملائكته وأهل السّموات والأرضين حتّى النّملة في جُحْرها، وحتّى الحوت، ليُصلُّون على معلّم النّاس الخير) [رواه الترمذي والطبراني].
النجاح الدنيوي لا يجوز أن يُقصد لذاته:
لكنّ النّجاح الدّنيوي لا يجوز أن يكون مقصوداً لذاته، وإنّما لا بدّ من اتّخاذه وسيلةً للنّجاح في الآخرة، لأنّه إذا طلبه الإنسان لغرضٍ دنيويٍّ فسيكون سبباً لخسارته وفشله يوم القيامة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «حدّثني رسول الله ﷺ أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة؛ ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكلّ أمّة جاثية، فأوّل من يدعو به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ يقتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي -صلّى الله عليه وسلّم-؟ قال: بلى يا ربّ، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تبارك وتعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يُقال فلانٌ قارئٌ، فقد قيل ذاك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتّى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا ربّ، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله: بل إنّما أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذاك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتّى قُتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك». ثمّ ضرب رسول الله ﷺ ركبتي فقال: «يا أبا هريرة؛ أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تُسعَّر بهم النّار يوم القيامة» [رواه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة].
ولذلك كان رسول الله ﷺ يسأل ربّه التوفيق في كلّ الأمور، وأن يصلح له أموره كلّها، ويجعلها سبباً لنجاحه في الآخرة، فكان يقول في دعائه الشريف: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ» [رواه مسلم عن أبي هريرة].
شارك المنشور على
Share this content