يعيش العالم كلّه منذ مدّة تحت وطأة وباء شامل؛ أنهك ميزانيات الدول، وأرهق الأطباء، وفتك بالملايين من البشر، فقد بلغ عدد الأشخاص الذين أصيبوا لحدّ الآن 199 مليون إنسان، وبلغ عدد الوفيات أربعة ملايين وربع مليون شخص. وفي الجزائر بلغ عدد الإصابات لحدّ الآن حوالي 200 ألف إصابة، أمّا عدد الوفيات فقد بلغ حوالي 4400 شخص، وهذا طبعًا حسب الإحصائيات الرسمية. أمّا ما صُرف من الأموال ممّا تحمّلته ميزانيات الدول من خسائر وتكاليف، وما صرفه الأفراد في التشخيص والتداوي؛ فهو بملايين الملايير ممّا لا يمكن إحصاؤه أو ضبطه وتقديره بدقة.
الوباء ابتلاء ربّاني، والفيروس جنديّ من جنود الله:
إنّ هذا الوباء يندرج ضمن سنّة الله في ابتلاء الأمم والشعوب والمجتمعات والأفراد، وهذا الفيروس المسمّى «كورونا»، أو «كوفيد-19» ليس سوى جنديًّا بسيطاً من جنود الله عزّ وجلّ التي قال عنها سبحانه وتعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ) [المدثر: 31]، أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم وأنواعهم وأشكالهم ووظائفهم إلاّ هو جلّ جلاله.
لقد قضى الله عزّ وجلّ أن يأخذ عباده مرّةً بعد مرّة بالابتلاء، حتّى يمحّصهم ويمتحنهم وينبّههم ويشعرهم بعواقب تصرّفاتهم، فهو يبتليهم بالخير لكي يختبر مدى شكرهم لنعمه، ويبتليهم بالشرّ ليختبر مدى صبرهم على بلائه، وفي ضوء ذلك يكون حسابه لهم يوم القيامة، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، وقال عزّ من قائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155]، وقال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
وكما يكون الابتلاء وسيلةً للاختبار؛ يكون كذلك وسيلةً للعقاب عندما يتنكّر النّاس لنِعَم الله وفضله عليهم، ويكفرون بهذه النّعم، ويستعملونها في الشرّ والعصيان والكفر والضّلال، قال عزّ من قائل: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
ومن رحمة الله بالنّاس بعد بعثة النّبي محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- أن لا يعاقبهم بعقابٍ عامٍّ شاملٍ يبيدهم به، ويقضي عليهم دفعةً واحدةً كما فعل مع بعض الأمم السّابقة لمـّا كفرت برسله، وتحدّت قدرته عزّ وجلّ، وإنما يعاقبهم بعقوبات مخفّفة؛ الغرض منها تنبيههم إلى ما هم فيه من كفر أو ضلال أو فسوق أو عصيان، حتى يقلعوا عمّا هم فيه، ويرجعوا إليه سبحانه وتعالى، ويستغفروه ويتوبوا إليه، وحينئذ يحقّ فيهم قوله عزّ وجلّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
لقد عرف العالم في الخمسين سنة الأخيرة طفرةً هائلةً في وسائل العيش والرفاهية، من منازل ومراكب ومطاعم ومشارب وملابس، وفي توفر الخدمات المختلفة من تعليم وصحّة ومواصلات وتواصل وسياحة، إلاّ أنّ هذه الطفرة الهائلة من النِّعَم والخيرات صحبتها طفرةٌ مثلها أو أكبر في الإعراض عن ذكر الله وعبادته، وارتكاب المفاسد والمعاصي والفسوق والفجور، والترويج لكلّ ذلك بوسائل رهيبة، وطرق عجيبة، حتّى نسي النّاس ربّهم، وأصبحوا يعشقون الدنيا ويعبدونها، ونسوا ربّهم وما ينتظرهم من مصير في الآخرة، ووصل الأمر بالمتحكّمين في مقاليد العلم والسياسة والاقتصاد في العالم إلى محاولة التدخّل في خلق الله، والتصرّف في ما اختصّ به سبحانه وتعالى من الخلق والتكوين، فكان عاقبة ذلك أن ارتدّ عليهم سعيهم، وجاءتهم النتائج على النقيض من قصدهم، وانقلب السّحر على السّاحر كما يقال، وتحقّق فيهم قول الله عزّ وجلّ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
الحكمة الربانية من ابتلاء الناس بالأوبئة:
ويُعتبر هذا الوباء الذي يعاني العالم من وطأته منذ أكثر من سنة ونصف أحد نتائج هذه المساعي الظالمة التي تسبّب بها فئةٌ من البشر في حلول العقاب بالعالم كلّه.
ومع ذلك فإنّ هذا الوباء وإن اعتبرناه عقاباً ربانيًّا للنّاس على ظلمهم وكفرهم وضلالهم وفسوقهم وعصيانهم، فليس الغرض منه إبادتهم أو القضاء عليهم نهائياً، إذْ لو شاء الله ذلك لفعله في لحظة بمقتضى قوله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82]، وإنّما الغرض منه تنبيههم إلى ما هم فيه من بعد عن الله ودعوتهم إلى العودة إليه سبحانه والتوبة والإنابة إليه والتضرعّ إليه عزّ وجلّ؛ ليرفع عنهم هذا البلاء، ويعيد إليهم أمنهم الصحيّ وطمأنينتهم النفسية.
قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: 94]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَد أَرسَلنا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذناهُم بِالبَأساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعونَ﴾ [الأنعام: 42].
فالحكمة الربّانية من ابتلاء العباد هي دعوتهم إلى العودة إلى الله، وإشعارهم بحاجتهم إليه، وفقرهم إليه، وعدم قدرتهم على الهروب من قدَره عزّ وجلّ، وأن من واجبهم أن يفرّوا إليه بدل أن يفرّوا منه، لأنّ فرارهم إليه سببٌ كشف الضرّ عنهم، بينما فرارهم منه سببٌ لزيادة بأسه عليهم وعقابه لهم، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات: 50-51].
فرار الناس إلى الأسباب المادية بدلاً من اللّجوء إلى الله:
لكنّ الملاحظ في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات عبر التاريخ أنّهم قليلاً ما يرجعون إلى الله، ونادرًا ما يتوجّهون بالتضرّع إليه، بل تجدهم يفرّون من الله ويتنكّرون له، ويتجاهلون عظمته وقدرته وحقّه عليهم، ويلجؤون إلى الأسباب المادية -التي هي مخلوقات لله- محاولين بها رفع ما يحلّ بهم من بلاء وبأساء وضرّاء، معتقدين أنّ هذه الوسائل البسيطة هي التي بيدها رفع الضرّ عنهم وكشف البلاء الواقع بهم.
وقد سجّل الله عزّ وجلّ هذه الظاهرة في حياة النّاس عبر التاريخ في قوله الكريم، مخاطِباً رسوله محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 42-43].
والقصد من مخاطبة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- وتعريفه بهذه العادة في حياة الأمم السّابقة؛ إعلامه أنّ أمّته ليست استثناءً في هذا المجال، وأنّها قد تقع في ما وقعت فيه الأمم السّابقة، فتنسى ربّها عزّ وجلّ عند حلول البلاء، وتلجأ إلى الأسباب المادّية وتتعلّق بها، وهو ما وقعت فيه هذه الأمّة فعلاً مرّاتٍ كثيرةٍ فيما مضى من تاريخها، وهو ما وقعت فيه فعلاً اليوم، وهو ما تعيشه عمليًّا في ظلّ هذا الوباء، وصدق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حين استشرف ما ستصير إليه أمّته من السَّيْر على ما سارت عليه الأمم السابقة، فقد أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟).
وإنّ ممّا هو مشاهدٌ في واقع عموم المسلمين اليوم؛ أنّهم لم يلجؤوا إلى الله بالتضرّع والتذلّل والرّجاء ليرفع عنهم ما حلّ بهم من بلاء ووباء، وإنّما لجؤوا إلى الأسباب المادية، واستعانوا بخبرات الدول الغربية والشرقية البعيدة عن الله، لتنجدهم في معالجة ما حلّ بهم من بلاء.
قسوة القلوب هي السبب:
وسبب إعراض المسلمين اليوم عن الله، ولجوئهم إلى الأسباب المادّية القليلة النفع والجدوى؛ لأنّ فعاليتها مشروطة بإذن الله لها بالتأثير؛ إنّما هو قسوة القلوب بفعل المعاصي والموبقات والمنكرات التي يرتكبها كثيرٌ منهم في كلّ لحظة من حياتهم وفي سائر شؤونهم، والتي تكدّست آثارها على القلوب حتّى طمست بصيرتها، ومنعتها من رؤية الحقّ واستشعاره، مصداقاً لقوله تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]. وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنَّ المـُؤْمَنَ إذَا أذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فإن تابَ وَنـزعَ وَاسْتَغْفَرَ صَقَلَتْ قَلْبَهُ، فإنْ زَادَ زَادَتْ حتى تَعْلُو قَلْبَهُ، فَذَلكَ الرَّانُ الَّذي قال الله: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)».
هذه القسوة أضعفت علاقتهم بالله وجعلتهم بعيدين عن هدايته، وهو ما استغلّه الشيطان فتمكّن به من السيطرة عليهم، حيث زيّن لهم أعمالهم، وصوّرها لهم في أبهى حلّة وأحسن صورة، ومن ذلك أن زيّن لهم اعتقاداتهم الضالّة، وتصوّراتهم الخاطئة، وأوحى إليهم أنّ ما يفعلونه هو الصّواب الذي لا صواب غيره، وأنّ الطريق التي ينتهجونها في مواجهة الأزمات والتعامل مع الابتلاءات هي الطريق الموصلة إلى المراد، وأنّ اللّجوء إلى الله والتضرّع إليه ممّا يلجأ إليه الدراويش، وليس هو الطريق الذي يوصي به العلم الحديث الذي كشف المجاهيل وحقّق المستحيل كما ادّعى الشيطان وزعم الزاعمون.
ولذلك حين جاء الوباء عمّهم، ولم يقع فقط على الظالمين منهم، بل شمل الصّالح والطّالح، وقد ورد في الحديث الذي رواه الشيخان عن زينب بنت جحش أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- أنّها سألت النبي ﷺ: (يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث!).
فكم حصد هذا الوباء من علماء وأطباء وفضلاء وأخيار، وكم أهلك من عصاة وظالمين وأشرار.
التضرع إلى الله خير وسيلة لرفع الوباء:
إنّ هذا الوباء إنّما حلّ بالنّاس بأمر الله عزّ وجلّ، ولن يرتفع إلاّ بأمر منه سبحانه وتعالى، ولن تجدي معه الوسائل المادية حتّى لو اجتمعت أموال وجهود دول العالم كلّه على مكافحته ومحاولة القضاء عليه، وهذا هو الواقع فعلاً.
ولذلك فإنّ الوسيلة المثلى لرفع هذا البلاء والتخلّص منه والحدّ من آثاره بالنّسبة إلينا نحن المسلمين، هي التي رسمها وحدّدها لنا ربّنا عزّ وجل، والمتمثّلة في التوبة إليه سبحانه وتعالى، واستغفاره من الذنوب والمعاصي، وردّ الحقوق والمظالم أوّلاً، ثمّ اللّجوء إليه عزّ وجلّ بالتضرّع والتذلّل والطّلب والدّعاء والجؤار أن يرفع عنّا الوباء ويدفع البلاء. وبالتوازي مع ذلك تُتّخذ الأسباب المادّية المتمثّلة في الوقاية بالتلقيح والتطعيم قبل الإصابة، أو التداوي وطلب الشفاء عند الأطباء في حال الإصابة، مقرونًا كلّ ذلك بالتوكّل على الله عزّ وجلّ، والاعتقاد بأنّه هو الشافي والمعافي بإذنه سبحانه وتعالى، عملاً بقوله عزّ وجلّ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران:159]، وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (اعقلها وتوكّل) [رواه الترمذي].
وهذه الوسيلة مطلوبٌ أن تُستعمل بشكلٍ جماعيٍّ، وعلى أوسع نطاق بقدر الإمكان، أي أن يقوم بها المسلمون بشكل جماعي في المساجد والمجالس والمؤتمرات والمنتديات والمؤسّسات والبيوت، بأن يتضرّعوا إلى الله عزّوجلّ، ويجأروا إليه على قلب فرد واحد، وعلى لسان فرد واحد مخلصين صادقين قاصدين.
وقد يسأل أحد: ألا يكفي أن يتضرّع كلّ فرد في نفسه بينه وربّه؟ ولماذا هذا التضرّع الجماعي؟ الجواب: أنّ الفرد الواحد قد ينتفع بتضرّعه إذا سأل الله العافية والشفاء لنفسه، إلاّ أن دعاءه لغيره من أفراد الأمة لن ينفعهم إذا لم يجأروا هم أيضًا ويتذلّلوا لله ويتضرّعوا إليه، وهذا لا يتحقّق عمليًّا إلاّ إذا كان بشكل جماعي، بأن تتفق كلّ مجموعة من المسلمين على أن تتضرّع إلى الله وتتوجّه إليه بالدعاء والرجاء، ويمكن أن يتمّ هذا على مستوى كلّ أسرة صغيرة أو كبيرة، وعلى مستوى مسجد كلّ حيّ، وفي كلّ مؤسّسة خاصّة أو عامّة.
وقد ثبت عن الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه ورحمه- أنّه لمـّا وقع الزلزال في زمانه كتب إلى ولاته في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم توبة جماعية.
التضرّع ليس دروشة ولا تكلّفاً:
وقد يوسوس الشيطان للبعض فيقول له: إنّ هذا الكلام دروشة، وربّما يوحي لبعض آخر بأنّه تخريف، وربّما أسرّ لبعض ثالث بأنّه تكلّف ورياء، ولكنّه الحقّ الذي لا مرية فيه، والذي جاءت النصوص القرآنية تأمر به وتحثّ عليه، فإن استعملنا ما أمرنا به ربّنا فهو الخير، وإن تركناه فلا ينبغي أن نلوم سوى أنفسنا، والله عزّ وجلّ غنيٌّ عنّا ولا يحتاج إلى دعائنا ولا إلى رجائنا، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 15-17]. كما أنّه سبحانه وتعالى لا حاجة به إلى عذابنا أو عقابنا إذا كنّا صالحين مصلحين، قال سبحانه: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
مطلوبٌ منّا نحن المسلمين جميعاً؛ أن نحاسب أنفسنا ونتوب إلى ربّنا ونستغفره ممّا نحن عليه وما نحن فيه من ذنوب وآثام، ونبادر إلى طاعته، ونحذر معصيته، ونتضرَّع إليه بالدعاء، لعلّه عزّ وجلّ أن يرحمنا، فيكشف ما نزل بنا. كما أنّ الواجب علينا أن نتعاون على البرّ والتقوى، ونحسن كما أحسن الله إلينا فإنّه سبحانه يحب المحسنين، ونرحم ضعفاءنا فإنّه يحب الرّاحمين، ونواسي فقراءنا، ونكثر من ذكر الله واستغفاره، ويأمر بعضنا بعضًا بالمعروف وينهى بعضنا بعضًا عن المنكر، ونعتبر بما أصاب غيرنا من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي.
ولنكن كقوم يونس -عليه السّلام- الذين رجعوا إلى ربّهم وتابوا إليه واستغفروه، وجأروا إلى الله واستغاثوا به، وتضرّعوا إليه وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيّهم، فرحمهم الله وكشف عنهم العذاب ومتّعهم في حياتهم الدنيا، قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [يونس: 98].
ولنعمل بنصيحة نوح -عليه السّلام- لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
ولنحذر أن نكون ممّن قال الله عزّ وجل فيهم: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]، أو ممّن قال سبحانه وتعالى فيهم: ﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا وَلـكِن قَسَت قُلوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ ما كانوا يَعمَلون﴾ [الأنعام: 43].
شارك المنشور على
Share this content