صدرت بتاريخ: الجمعة 25 ربيع الأول 1441ه
مجال الاستشارة: الفقه [المعاملات المالية]
جوابًا على السؤال الآتي:
مجموعة من المتبرّعين جمعوا مبلغًا كبيرًا لمعالجة أحد المرضى، جمعوا ذلك بأنفسهم أو بحملة منظمة من هيئة معينة كجمعية أو لجنة الحي أو نحو ذلك، وقبل أن يُصرف المبلغ للمريض توفّــي، فما حكم المال: هل ينتقل للورثة، أم يستردّه المتبرّعون، أم يُصرف لجهات أخرى؟
خلاصة الاستشارة:
حكم الأموال المتبرع بها لمعالجة مريض، ثم مات قبل العلاج، تتوزعه الحالات الآتية:
الحالة الأولى: قبل تسليم المال للمريض.
إذا لم يُسلَّم المال للمريض من طرف الجامعين، ومات المريض، فإنّ الهبة لا تثبت، تأسيسًا على انتفاء الشرط الذي عُلِّقت عليه عُرفًا، وتأسيسًا على عدم لزوم الهبة إلاّ بالقبض حال انعقادها. ولا يعدّ تسليم المال للجامعين من طرف المتبرّع قبضا، بل هو توكيل لهم بالتسليم، معلَّقٌ على شرطه، وينبني عليه:
أنّ المال يُردّ لصاحبه إذا عُلم، وليس ذلك رجوعًا في الـهبــة لعدم انعقادها، أو يُطلب منه صرفُه في وجه آخر من وجوه الخير إن شاء. وهذا إذا لم ينو المتبرّع الصدقة، فإذا نوى الصدقة، فإنّ المال يتعيَّن صرفه في نفس الوجه الذي رُصد له أو ما قاربه.
فإن لم يُعلم المتبرّع عُـــدّ ذلك من باب الصّدقة، ويُصرف المال في نفس الوجه الذي رُصد له أو ما قاربه.
لا ينتقل المال للورثة.
الحالة الثانية: بعد تسليم المال للمريض.
إذا سُلّم المال للمريض من طرف الجامعين، ومات قبل مباشرة العلاج، فإنّ المال يستردّ للمتبرع به، لانتفاء الشرط الذي عُلّق عليه التبرع، وينبني على ذلك ما ينبني على الحالة الأولى.
الحالة الثالثة: إذا سُلّم المال للمريض، وأنفقه في العلاج، وبقي منه فائض.
تعدّ الهبة منعقدة، وشرطها متحقّقا، وما بقي فهو للمتبرَّع له، ولورثته من بعده.
أولا: تــصوير المسألة:
التصوير الأول:
ما يُجمَع من أموال من الناس لمعالجة مريض: تتردّد فيه نيّات المتبرّعين بين:
طلب ثواب الآخرة، بغض النظر عن الشخص المعني بالاستفادة من المال.
وبين قصد إفادة ذلك الشخص بعينه، مع قصد الثواب الأخروي، أو قصد ثواب دنيوي.
فالأولى: هي الصدقة. والثانية: هي الهبة.
فإنّ الصدقة يقصد بها الثواب الأخروي، والتطهر من الذنوب، مع انتفاء قصد في شخص معيّن.
أمّا الهبة فيقصد بها نفع موهوب له بعينه، إما ابتغاءً لأجر أخروي، أو لثواب دنيوي.
وممّا يشهد للتفريق بين الصدقات والهبات، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل الصدقة، ويقبل الهبة، ويثيب عليها.
ولـمّا كان من جُمع له المال شخصا معيّــنا، فإنّ التبرّع تغلب فيه نية الهبة على نية الصدقة، وبناء عليه: فإنّ استرجاع المال الذي تُبرّع به للمريض، هو من باب الرجوع في الهبة، وحكم الرجوع في الهبة مبني على حكم عقد الهبة: هل هو جائز، أم لازم؟ أما من نوى الصدقة، فحكمه حكم الرجوع في الصدقة.
(العقد الجائز: هو الذي يجوز لأحد طرفيه فسخه بإرادة منفردة متى شاء. أمّا العقد اللازم: فهو الذي لا يجوز فسخه بإرادة منفردة، إلا برضا الطرفين).
التصوير الثاني:
أنّ التبرّع لمعالجة مريض بعينه، هو كالتبرّع المشروط بمباشرة العلاج، أي كما لو قال المتبرّع: (وهبت المال للمريض بشرط أن يعالج به)، وهذا الشّرط وإن لم يكن مصرّحًا به، فهو كالمعهود عند المتبرّعين، وعند الناس، والمعروف عرفا كالمشروط شرطًا. ويشهد لكون هذا الشرط مقصودًا عرفًا: حصول النزاعات بين المتبرّعين والمتبرّع لهم، إذا صرفوا المال في غير ما منحوا لأجله.
وعلى هذا تأخذ المسألة حكم الهبة المعلّقة بالشرط، وانتفى شرطها.
ثانيا: حكم المسألة:
تفريعا على التصوير الأول: هل عقد الهبة جائز أم لازم؟
وقد اختلف العلماء في صفة عقد الهبة على قولين، هما:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية، أنّ الهبة عقد جائز غير لازم، إلاّ بأحد أمرين:
1- أن يعوَّض الواهب عن هبته.
2- أن يوجد ما يمنع من الرجوع، كاستهلاك الموهوب، وزيادته زيادة متصلة، وتصرّف الموهوب فيه بإخراجه عن ملكه، أو موت أحدهما.
القول الثاني: وهو مذهب الجمهور (المالكية، والشافعية، والحنابلة)، أنّ الهبة عقد لازم.
لكنهم اختلفوا متى تلزم على عدة أقوال أهمها:
1_ أنّ الهبة تلزم بمجرد العقد (الإيجاب والقبول): فإذا تمّ العقد؛ حقّ للموهوب له أن يطالب الواهب بالتسليم، ولا يحق للواهب الرجوع بالهبة، وهذا مذهب المالكية، ورواية للحنابلة، ثم اختلفوا هل تملك بالعقد، أم بالحيازة.
2- أنّ الهبة لا تلزم إلاّ بالقبض: فيحقّ للواهب الرجوع عن الهبة قبل التقابض، وهذا مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة.
والذي ترجّح الهيئةُ الإفتاء به: أنّ الهبة لا تلزم بمجرّد العقد، ولكنها تلزم بالقبض، وذلك للأدلة الآتية:
1- أنه الظاهر من مذهب الخلفاء الراشدين الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم.
2- فعن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ﴿إنّ أبا بكر الصديق كان نَــحَــلَها جَادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة، فلمّا حضرته الوفاة قال: والله يا بُــــنـــــيّــــةُ؛ ما من النّاس أحدٌ أحبُّ إلـــيّ غنًى بعدي منك، ولا أعزُّ عليَّ فقراً بعدي منك، وإنّي كنتُ نــحــلــتُكِ جادّ عشرين وَسْــقًا، فلو كنتِ جَدَدْتِــيه واحْـــتــــزتـــيه كان لك. وإنّما هو اليوم مالُ وارث، وإنّما هما أخواك، وأختاك، فاقــتسِمُوه على كتاب الله﴾. قالت عائشة، فقلت: ﴿يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركتُه، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟﴾، فقال أبو بكر: ﴿ذو بطنِ بنتِ خارجة، أُراها جارية﴾ [رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من النَّحْل، رقم: 1438].
3- وعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ﴿ما بال رجال ينْحَلون أبناءهم نُـــحْــلًا، ثم يمسكونها، فإن مات ابنُ أحدهم، قال: مالــي بيدي، لم أُعْطِه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نَحَل نِحْلة فلم يـحُــزْها الذي نُــحِلَها، حتى يكون إن مات لورثـــته، فهي باطل﴾ [الموطأ: 1439].
4- وعن سعيد قال: شكي ذلك إلى عثمان أنّ الولد إذا كان صغيرا لا يحوز، ﴿فرأى أنّ أباه إذا وهب له وأشهد، حاز﴾ [ابن أبي شيبة: 20125].
وجه الاستدلال بهذه الآثار:
أنّ الخلفاء الراشدين لم يعدّوا النحلة (الهبة) معتبرة، إلاّ إذا حازها من نُحلت له، فإذا لم يحزها جاز للواهب الرجوع فيها.
قال المروزي في اختلاف العلماء: (اتفق أبو بكر وعمر وعثمان على أنّ الهبة لا تجوز إلاّ مقبوضة).
وهذا وإن لم يكن إجماعًا، لكن صدوره عن هؤلاء الصحابة الأكثر قربا وفهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمضطلعين بإمامة الأمة، بوصفهم أفقه الصحابة وأعلمهم، مع عدم اشتهار منكر عليهم، أو مخالف لهم؛ لهو من أقوى المرجّحات.
مفارقة التبرعات للمعاوضات:
إنّ قياس الهبة على بقية العقود في كونها تلزم بمجرد الإيجاب والقبول، وأنّ ذلك لا يفتقر إلى القبض كما لا يفتقر البيع ونحوه؛ فيه إغفال لفروقات مهمة بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات، في طبيعتها، ومقاصدها، وخصوصيات كل منها.
ومن أوجه الاختلاف:
أنّ التبرعات يُطلَب فيها طيب نفس المتبرّع، ورسوخ الرضا والاطمئنان بالتبرع في نفسه، أشدَّ وأخصَّ ممّا يُطلب ذلك في المعاوضات، وذلك أنّ إخراج المال في المعاوضات يقابله العوض، أمّا إخراجه في التبرعات فهو محض تخل عن المال المحبوب للنفس، والمتعلق به بالفطرة والجبلة، ما يجعل إخراجه محلّ تردّد، وعرضة للندامة، وحصول الندامة فيه مما يحجز المتبرع وأمثاله عن الإقدام على ذلك مرة أخرى، فتقل التبرعات، وينعكس مقصد التشريع في تكثيرها وتوفيرها.
وإذا كان كذلك؛ فالمناسب لحكمة التشريع هذه أن تكون مهلة لزوم عقد التبرّع عقب العزم عليه وإنشائه أوسع من مهلة انعقاد عقود المعاوضة ولزومها. ويناسب ذلك أن يكون الحوز شرط صحّة انعقاد التبرع، بحيث لا يلزم الوفاء بالتبرع إذا لم يحصل الحوز، ففي هذا توسعة على فاعل المعروف حتى ينضمَّ تنجيزُه إلى قوله.
[هذا الاستدلال من تحريرات العلاّمة الشيخ الطاهر بن عاشور، في كتابه مقاصد الشريعة، ص489-492 /ط دار النفائس].
وهذا المعنى هو الذي لاحظه الحنفية في قولهم بعدم لزوم عقد الهبة، وعبّر عنه السرخسي بقوله في المبسوط: (عقد التبرع ضعيفٌ في نفسه؛ ولهذا لا يتعلّق به صفة اللزوم. والملك الثابت للواهب كان قويا؛ فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضمّ إليه ما يتأيّد به).
مفارقات بين عقود التبرعات نفسها:
كما أنّ عقود التبرعات تختلف طبيعتها ومقاصدها، بين ما يراد بها محض القربة لله تعالى، ومطلق العطاء، فلا تــتبعها نفوس المتبرّعين، ولا يقفون على تدقيق وجه الانــتــفاع بها، وبين ما يراد به تمليكٌ مخصوص، وإقامة مصالح مهمّة، لا سيّما إذا تطلّب أموالا كبيرة، يتنافس في مثلها المتنافسون، ويتشاكس المتشاكسون، ويتلاعب المتلاعبون، فهذه تبتدئ ابتداءً شبيهاً بالقربات، يدفع المرءَ إليها حبُّه الخير، وسخاءُ نفسه بالفضل، ثم تأخذ حكم الحقوق التي يتشاحُّ الناسُ في اقـتنائها وانتزاعها، وفي استبقائها ومنعها، فربّما عرضت ندامة المتبرّع، أو كراهة وارثه، أو حاجره، وربما أفرط المتبرَّع عليه في تجاوز حدّ ما خــوّل له، فكانت بسبب هذا العارض الكثير التطرّق إليها جديرةً بتسليط قواعد الحقوق ومقاصد التشريع عليها.
[هذا الاستدلال من تحريرات العلاّمة الشيخ الطاهر بن عاشور، في كتابه مقاصد الشريعة، ص489-492 /ط دار النفائس].
فالتبرعات بالخطير من المال؛ يناسبها عدم الانعقاد إلا بالتحويز، ويناسبها جواز التعليق بالشرط (على ما يأتي بيانه).
وعلى هذا الأساس فـرّقنا بين الرجوع في الهبة، كما تم بيانه، والرجوع في الصدقة، وهو الآتي بيانه:
اتفق العلماء على عدم جواز الرجوع في الصدقة، وحكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر، وابن رشد، وابن قدامة، وغيرهم، وقال ابن عاصم في التحفة:
وكلُّ ما يـجري بلفظ الصَّدقة .. فالاعْـتــصارُ أبـــداً لنْ يــلْـحــقَـه
لأنّ مقصود الصدقة الثواب من الله تعالى، وقد حصل، فلا يُرجَع فيه، بينما مقصود الهبة، حصول النفع للموهوب له، فإن حصل فبها، وإن لم يحصل (بعدم القبض، أو بانتفاء الشرط) جاز أن تُرتجع.
تفريعا على التصوير الثاني: حكم الهبة المعلقة على شرط، وانتفى الشرط.
(التعليق: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى). ومعنى كون الهبة معلّقة على شرط: أي أنّ آثار الهبة لا تكون سارية، إلاّ في المستــقبل المضاف إليه تحقّق ذلك الشرط.
وهو في مسألتنا: ربط التبرّع بالمال للمريض، بمباشرته العلاج، أي: أنّ التبرّع لا يكون إلاّ إذا باشر المريض العلاج. وهو تعليق غير مصرّح به، ولكنه معروف عرفًا، ويشهد له حصول النزاع إذا صُرف المال في غير الوجه المتبرع به، كما سبق البيان.
وقد اخــتلف الفقهاء في حكم تعليق التبرّعات، كالوقف، والهبة، ونحوها على أقوال أهمها:
القول الأول: التبرعات لا تحتمل التعليق والإضافة. وهو مذهب الجمهور (الحنفية، والشافعية، والحنابلة).
لأنّ التبرعات تمليك، ومقتضى التمليك هو الجزم والتنجيز، وذلك ينافي التعليق على شرط متردّد بين الوجود والعدم.
القول الثاني: يصح تعليق التبرعات. وهو مؤدّى مذهب المالكية في الإلزام بالوعد إذا كان على سبب.
واختار صحة تعليق التبرعات ابن تيمية، وابن القيم.
أمّا المالكية: فإنّهم وإن أقــرّوا أنّ الأصل في التمليكات عدم التعليق؛ لأنّ طريقها الجزم، إلا أنّهم يذهبون إلى أنّ الوعد في التبرّعات إذا كان على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء؛ فإنّ الوعد يكون لازما ويقضى به على الواعد. وذلك بناءً على ما اشتهر عن الإمام مالك -رحمه الله-: (أنّ من ألزم نفسه معروفا لزمه، إلاّ من موت أو فلس). والإلزام بالوعد على سبب، كصحة التعليق من حيث الأثر، لا فرق بينهما.
والذي تختاره الهيئة هو القول الثاني: أن التبرعات يصح فيها التــعليق والإضافة، للأدلة الآتية:
1- الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يبطل منها شيء إلا بدليل، ولا دليل على بطلان التعليق بالشرط في التبرعات.
2- حديث جابر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا -ثلاثا-﴾، فلم يقدم حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبو بكر مناديا فنادى: ﴿من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا، فأتيته، فقلت: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم وعدني، فحثى لي ثلاث﴾. [البخاري: 2598].
وفيه تعليق الهبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدوم مال البحرين.
1- عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: لـمّا تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة قال لها: ﴿إني قد أَهديتُ إلى النجاشي حُلّة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلاّ قد مات، ولا أرى إلاّ هديتي مردودة علي، فإن رُدّت عليّ فهي لك﴾، وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ورُدّت عليه هديته، فأعطى كلّ امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة﴾. [أحمد: 27276].
وفيه: تعليق الهبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرط ردّها إليه من طرف قوم النجاشي، وكان ذلك.
1- القياس على صحة التعليق في بعض العقود التي تقتضي التمليك، ومنها:
2- الوصية، فهي معلقة على الموت.
3- البيع بشرط الخيار، فالعقد فيه متردد بين الفسخ والإمضاء، وهو في الحقيقة تعليق للعقد.
4- يغتفر في عقود التبرع ما لا يغتفر في عقود المعاوضة.
وذلك أنّ التــعليق مُـــنع في المعاوضات، لإفضائه إلى الجهالة والغرر والمقامرة، والمختار أنّ ذلك إنما يؤثر في المعاوضات دون التبرعات، كما بيّنه الإمام القرافي في كتابه (الفروق): (الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات)، قال: (ما هو إحسانٌ صِرفٌ، لا يُــقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة والإبراء … فاقتضت حكمة الشرع وحثّه على الإحسان: التوسعة فيه بكلّ طريق، بالمعلوم والمجهول، فإنّ ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله).
وينبني على جواز تعليق الهبة على الشرط أنّ انتفاء الشرط مانع من ثبوت حكم الهبة، ومانع للسبب عن السببية، فلا ينعقد سببا للحكم في الحال، وإنما يتأخر إلى زمن وجود الشرط.
تطبيق الدراسة على مسألتنا:
بناء على ما تم بيانه وترجيحه وتوضيح أدلته، فإن حكم الأموال المتبرع بها لمعالجة مريض، ثم مات قبل العلاج، تتوزعه الحالات الآتية:
الحالة الأولى: قبل تسليم المال للمريض.
إذا لم يُسلَّم المال للمريض من طرف الجامعين، ومات المريض، فإنّ الهبة لا تثبت، تأسيسًا على انتفاء الشرط الذي عُلِّقت عليه عُرفًا، وتأسيسًا على عدم لزوم الهبة إلاّ بالقبض حال انعقادها. ولا يعدّ تسليم المال للجامعين من طرف المتبرّع قبضا، بل هو توكيل لهم بالتسليم، معلَّقٌ على شرطه، وينبني عليه:
1- أنّ المال يُردّ لصاحبه إذا عُلم، وليس ذلك رجوعًا في الـهبــة لعدم انعقادها، أو يُطلب منه صرفُه في وجه آخر من وجوه الخير إن شاء. وهذا إذا لم ينو المتبرّع الصدقة، فإذا نوى الصدقة، فإنّ المال يتعيَّن صرفه في نفس الوجه الذي رُصد له أو ما قاربه، ولا يجوز ارتجاع الصدقة لصاحبها.
2- فإن لم يُعلم المتبرّع عُـــدّ ذلك من باب الصّدقة، ويُصرف المال في نفس الوجه الذي رُصد له أو ما قاربه.
3- لا ينتقل المال للورثة.
الحالة الثانية: بعد تسليم المال للمريض.
إذا سُلّم المال للمريض من طرف الجامعين، ومات قبل مباشرة العلاج، فإنّ المال يستردّ للمتبرع به، لانتفاء شرط الذي عُلّق عليه التبرّع، وينبني على ذلك ما ينبني على الحالة الأولى.
الحالة الثالثة: إذا سُلّم المال للمريض، وأنفقه في العلاج، وبقي منه فائض.
تعدّ الهبة منعقدة، وشرطها متحقّقا، وما بقي فهو للمتبرَّع له، ولورثته من بعده.
نصائح في التعامل مع هذه التبرعات:
1- إذا كان المتبرَّع له شخصًا بعينه، فلينو المتبرِّع الهبة، لا مطلق الصدقة.
2- يشرع تعليق الهبة على شرطها صراحة، لتفادي صرفها في غير ما رُصِدت له.
3- لا يُسلّم المريض إلاّ مقدار المبلغ المطلوب من طرف الجهة الطبيّة بالتوثيق، وما جمع مما زاد على ذلك يرد لأصحابه، أو يصرف في مثله.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
أعضاء الهيئة الموقعون على الفتوي
الشيخ لخضر الزاوي// أد. عبد القادر جدي// د. عبد العزيز بن سايب// أ. سمير كجاور// أد. عبد الحق حميش// د. مـحمّد هندو.