صدرت بتاريخ: الجمعة 4 محرّم 1440ه
مجال الاستشارة: الفقه [علامات البلوغ]
جوابًا على السؤال الآتي نصُّه:
ابنتي تبلغ من العمر سبع سنوات، ونزل منها دم كدم الحيض، فأخذناها إلى الأطباء، فأكّدوا لنا أنّه حيض، فهل تعدّ بذلك بالغة؟ وهل يجب عليها الصوم والصلاة والتكاليف الشرعية؟ علما أنها ما زالت طفلة، تقضي معظم وقتها في اللعب، ولا يتحمّل جسدها الصوم، أفيدونا بارك الله فيكم.
خلاصة الاستشارة:
إذا كانت حالة الحيض المبكّر غير طبيعية -بحسب التشخيص الطبي الدقيق من طبيب ثقة حاذق-، أي: تسبّب فيها اختلال عوامل جسدية وهرمونية معيّنة، -وهذا هو الغالب من حالات الحيض المبكّر-، فالحكم الشّرعي في هذه الحالة هو: خضوع البنت للعلاج، امتثالاً لأمر الشّارع الحكيم بالتداوي، واعتبارها غير بالغة، وغير مخاطبة بالتكاليف الشرعية، إلى أن تبرأ وتبلغ في السنّ المعتادة. أمّا إذا كانت حالة الحيض المبكّر طبيعية -بحسب التشخيص الطبي-؛ تخلو من أيّ اختلال جسدي أو هرموني، وبالتالي لا تتطلّب الخضوع لأيّ علاج، فهي من الحالات النادرة لبلوغ البنات قبل السنّ المعتادة، والحكم الشّرعي في هذه الحالة؛ هو اعتبار البنت بالغة، ولكن لا تجب عليها التّكاليف من صلاة وصيام إلاّ بقدر الاستطاعة، ويعوّل في تحديد استطاعة البنت من عدمها على الطبيب أو الخبير.
بعد تداول الرأي والنقاش بين أعضاء الهيئة في المسألة المطروحة؛ خلصت -بأغلبية الآراء- إلى الجواب الآتي: الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
أولا: تصوير المسألة.
عرّف الفقهاء الحيض تعريفات عديدة، ومتقاربة، نذكر منها:
(دمٌ كصُفْرة وكُدْرة، خرج بنفسه من قُبُل من تحمل عادة …) [خليل].
(دمٌ تلقيه رَحِمٌ معتادٌ حملُها دون ولادة …) [ابن عرفة].
(دمٌ ينفُضُه رحِمُ امرأةٍ سليمةٍ عن دَاءٍ وصِغَر) [الحنفية].
(دم جبلّة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها، على سبيل الصحة، من غير سبب، في أوقات معلومة). [الشافعية].
(دمُ طبيعةٍ يخرج مع الصحّة، من غير سبب ولادة، من قعر الرّحم، يعتاد أنثى إذا بلغت، في أوقات معلومة) [الحنابلة].
والحيض المبكّر: هو نزول دم الحيض من الفتاة قبل السنّ الأدنى لبلوغ الفتيات عادةً، وهو سنّ الثامنة أو التاسعة.
ثانيا: تحرير محلّ البحث:
اتفق الفقهاء أنّ البلوغ هو مناط التكليف، لقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصّبي حتّى يبلغ، وعن النّائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ﴾ (أبو داود: 4402).
واتفقوا أنّ الحيض للبنت من علامات البلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لا يقبل الله صلاة حائض إلاّ بخمار﴾ [أي من بلغت سن الحيض] (أبو داود: 641).
واتفقوا أنّ الحيض المعتبر في البلوغ ما كان على وجه الطّبيعة والصحّة والسّلامة من أيّ داء، أو اختلال في الأعضاء، والهرمونات، أو جُرْح، أو سقوط، أو ولادة.
الحيض المبكّر لا يخلو من إحدى حالتين:
حالة غير طبيعية: يتسبّب فيها اختلال عوامل جسدية معيّنة، يمثّل لها الأطباء بــــ:
*وجود ورم أو تلوّث أو إشعاع أو إصابة في الجهاز العصبي المركزي.
*عيب خِلقي في تركيبة الدماغ.
*فرط نشاط الغدة الكُظرية، أو وجود أورام فيها.
*نقص نشاط الغدة الدرقية.
*خلل في الهرمونات الجنسية.
*أورام أو أكياس في المبيضين … إلخ.
حالة طبيعية: خالية من أيّ داء أو خلل جسدي أو هرموني، وهذه الحالة تختلف فيها النساء اختلافا متباينا ظاهرا بحسب جسد المرأة، والبيئة التي تعيش فيها.
ثالثا: بيان الحكم.
إذا كان الحيض المبكّر -وفقا لتشخيص طبّي دقيق من ثقة حاذق-، قد وقع بسبب المرض، والاضطرابات الهرمونية، والاختلالات في الغُدد المفرزة، ونحو ذلك من الأسباب التي يحدّدها الأطباء، ولم يكن بصفة طبيعية، -وهذا هو الأعمّ الأغلب من حالات الحيض المبكّر-؛ فالحكم الشرعي أنّ الطفلة لا تعدّ بالغة بذلك، ولا تجري عليها التكاليف الشرعية، بل تُعدّ مريضة، يتوجّب خضوعها للعلاج والاستشفاء، امتثالاً لأمر الشارع الحكيم بالتداوي، قال صلى الله عليه وسلم: ﴿يا عباد الله تداوَوْا؛ فإنّ الله لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء﴾(الترمذي: 2038)، إلى أن تبرأ وتبلغ بشكل طبيعي في السنّ المعتادة، وذلك للقاعدة الشرعية: «أنّ الأحكام تُناط بالأوضاع العادية والطبيعية، فإذا انتفت تلك الأوضاع تبدّلت الأحكام».
ونظير ذلك في الفقه كثير؛ كخروج الحدث على جهة السّلس والعلّة، فإنّ له أحكاما خاصّة، وكالاستحاضة؛ لم يعدّها الفقهاء حيضا لكونها على جهة العلّة، ونحو ذلك.
أمّا إذا وقع الحيض المبكّر -وفقا لتشخيص طبّي دقيق من ثقة حاذق- بشكل طبيعي، من غير أيّ تأثير لعامل من عوامل الاختلال الجسدي والهرموني ونحو ذلك؛ فهل ثمتّ سنٌّ أدنى للحيض، فما كان دون تلك السنّ فلا يعدّ حيضا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين:
الأول: وهو للجمهور؛ أنّ السنّ الأدنى للحيض هو تسع سنوات قمرية، فما كان قبل ذلك فلا يُعدّ حيضا.
استنادًا لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ﴿إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة﴾(الترمذي: 1109).
وتعويلا على التــتبّع لما جرت به العادة.
الثاني: وهو قول الإمام مالك، واختيار بعض أصحابه، والدارمي من الشافعية، وابن تيمية، وبعض المعاصرين؛ أنّه لا أدنى لسنّ الحيض، بل متى وُجد على صفته وهيئته المعروفة، من غير استجلاب أو علّة، فهو هو، معتمدين على:
*عدم تحديد سنّ أدنى للحيض في النصوص الشرعية، ولو وُجد لبيّــنـــته السنة، خصوصًا مع الحاجة لهذا البيان.
*كان كثيرٌ من السَّلَف إذا سُئلوا عن الحيض قالوا: سلُوا النّساء؛ فإنّهنّ أعلم بذلك، يعني هنّ يعلمن ما يقع من الحيض وما لا يقع.
*أنّ تحديد أدنى سنّ الحيض بتسع سنوات حكمٌ أغلبي فيما بلغته حاسّة الفقهاء، ولكنّه ليس حكما كلّيا، وقد وُجد في النّساء من تحيض قبل السنّ المذكورة، والمحسوس لا يقبل النفي.
وبهذا القول الثاني؛ قول الإمام مالك؛ تأخذ هيئتُنا في هذه الاستشارة، وينبني عليه أنّ الطفلة محلّ السؤال؛ إذا شخّص الأطباء حالتها بدقّة، فوجدوا أنّها سليمة، وما نزل منها حيضٌ بكامل أوصافه المعروفة، فهي بالغة ولو كانت دون سنّ الثامنة، وتُخاطَب بالتكاليف الشّرعية، ولكن بحسب ما هي مؤهّلة له من القدرة العقلية والجسدية، فإذا شقّ عليها شيءٌ من التكاليف مشقّةً فادحة غير معتادة؛ سقط عنها إلى القضاء في زمن المقدرة، وذلك للأدلة والقواعد الشرعية المقررة:﴿لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها﴾، لا تكليف إلاّ بمقدور، المشقة تجلب التيسير، الميسور لا يسقط بالمعسور.
ويُستند في تحقيق مناط المقدرة والمشقة إلى خبير، أو طبيب، ويتولّى ذلك وليّ البنت، مع وجوب الاحتياط والتحرّي لأمر الدّين.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
الموقعون على الفتوى
أد. عبد الحق حمّيش// أد. عبد القادر جدّي// أد. محمّد سنيني// د. محمّد هندو