صدرت بتاريخ: الجمعة 20 ذو الحجة 1442ه
مجال الاستشارة: الفقه [العبادات]
جوابًا على السؤال الآتي:
السؤال: هناك أناس عندنا في بعض القرى والمداشر، وحتى بعض المدن؛ يُصلّون في هذه الظروف الوبائية بالهيئة العادية المعروفة من اتصال الصفوف، وتقارب المصلّين، وسدّ الفرج، وينفون كون الصّلاة بالتباعد الجسدي؛ مشروعة، أو صحيحة، كما إنّهم يحتجّون ببعض الفتاوى والأقوال لشيوخ في الجزائر وخارجها، فما رأيكم في هذه المسألة، جزاكم الله خيرا؟
خلاصة الاستشارة:
الصّلاة بالتباعد الجسدي تتضمّن إقامة الصفوف وتسويتها، وإنّما يتخلّف فيها سدّ الفرج، وهو مستحبٌّ وسنّةٌ من سنن صلاة الجماعة عند جماهير الفقهاء، وفي ظلّ الظروف الوبائية التي يجب شرعًا الأخذ فيها بأسباب السّلامة وتجنّب العدوى؛ ومن ذلك تباعد المصلّين في الصلاة؛ فإنّ صلاة الجماعة على هيئة التباعد مشروعة وصحيحة بلا كراهة، وذلك لقيام العذر الذي يزيل الكراهة، بل قيام الضرورة التي يسقط معها الوجوب حتى على قول من قال بوجوب تقارب المصلّين في الأحوال العادية، والضرورة هي اتقاء العدوى التي هي سبب في إتلاف النفوس المصونة والمحفوظة في الشرع.
كما أنّ أداء صلاة الجماعة على هيئة التباعد أولى من تعطيلها كلّية، وأدائها في البيوت، لكونها من السنن المؤكدة، ومن شعائر الإسلام التي يجب وجوباً كفائياً على أهل كلّ قرية أو مدينة إقامتها، إلاّ أن يتعذّر ذلك تعذّراً تامًّا وكلّياًّ، للقاعدة الشّرعية المعلومة: أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وللقاعدة أنّ التكملة إذا عادت على أصلها بالإبطال لم تعتبر.
هذا وإنّ التزام ما عليه الجماعة من الأمر العامّ، وترك الإعلان والعمل بموقف المخالفة، حتّى لمن يعتقد خلاف الرأي المعمول به، واجبٌ شرعًا، وهو من هدي السّلف، ومن أمارات الفقه في الدّين.
أولا: توضيح المصطلحات، وما ينبني عليها من اختلاف الحكم
– الاصطفاف: إقامة الصفوف وتسويتها؛ بحيث لا يكون أحد المصلّين متقدّمًا، والآخر متأخّراً.
– إتمام الصفوف: الأوّل فالأوّل؛ بأن لا يصلّي المأموم في صفّ حتّى يستكمل الذي قبله.
– سدّ الفُرَج: ألاّ يدع المصلّي بينه وبين من على يمينه أو شماله فراغًا يسع شخصًا أو أكثر.
– التراصّ: هو المبالغة في سدّ الفُرَج، بحيث يلصق منكبه بمنكبه، وقدمه بقدمه، كما تلصق اللّبنة بأختها في البنيان المرصوص. قال الخليل: (رصصتُ البنيان رصًّا إذا ضممتُ بعضَه إلى بعض. ورجلٌ أرصُّ الأسنان؛ أي: ركب بعضُها بعضًا، ومنه التراصّ في الصفّ) [العين: 7/83].
فهذه المراتب ليست شيئاً واحدًا، لا من حيث الماهية، ولا من حيث الحكم.
_ أمّا من حيث الماهية، فللدلائل الآتية:
* الواو للنظم، لا للعطف:
وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (أقيموا صفوفكم، وتراصّوا) [البخاري: 719]، وقوله: (أقيموا الصّفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل) [أبو داود: 666].
فالجمل الفعلية المعطوف بعضها على بعض، كل منها جملة تامة، والعطف يدخل على الجمل الناقصة كما هو مذهب الجمهور. [انظر: أصول السرخسي: 1/273-274]. وفائدة كونها للنظم أنها لا تقتضي اشتراكا بين الجمل في ماهية ولا حكم. بل كل جملة مستقلة بماهيتها وحكمها، والاشتراك إن وجد فيستفاد من دليل خارج.
ولو فرض العطف جدلا؛ فالأصل الغالب أنّ العطف يقتضي المغايرة بين المعطوفين، ولا يُعطف بين المتماثلات إلاّ لغرض خاصّ.
قال ابن دقيق في التفريق بين الاصطفاف وسدّ الفرج: (تسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها على سمتٍ واحد، وقد تدلُّ تسويتُها أيضًا على سدّ الفُرَج فيها؛ بناءً على التسوية المعنوية، والاتفاق على أنّ تسويتها بالمعنى الأوّل والثاني أمر مطلوب، وإن كان الأظهر أنّ المراد بالحديث الأول) [إحكام الأحكام: 1/217].
* تشبيه تسوية الصفوف بتسوية القداح:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسوّي صفوفنا، حتّى كأنّما يسوّي بها القِدَاح، حتّى رأى أنّا قد عَقَلْنا عنه …) [مسلم: 436].
قال النووي: (القِدَاح بكسر القاف هي خشب السّهام، حين تُنحَت وتُبْرى، واحدها قِدْح بكسر القاف. معناه: يبالغ في تسويتها حتّى تصير كأنّما يقوَّم بها السّهام لشدّة استوائها واعتدالها) [شرح مسلم: 4/157].
وفيه أنّ المعتبر الأساسي في التسوية استقامة الصف، وعدم اعوجاجه.
* اعتبار التقدم والتأخر في التسوية:
ففي حديث النعمان بن بشير آنف الذكر: (ثمّ خرج يوماً فقام حتّى كاد يكبّر فرأى رجلاً باديًا صدرُه من الصفّ، فقال: (عباد الله؛ لتُسوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم) [مسلم: 436]. قال ابن رجب: (وفيه دليلٌ على أنّ استواء صدور القائمين في الصفّ أيضا) [فتح الباري لابن رجب: 6/283].
والتسوية بالصدور -كما ترى- يعتبر فيها التقدم والتأخر. وقال الحافظ العراقي: (كان عليٌّ -رضي الله عنه- يتعاهد ذلك أيضًا، ويقول: تقدّمْ يا فلان، تأخّرْ يا فلان) [طرح التثريب: 2/326].
* المحاذاة لغة وشرعا الإزاء والمقابلة:
أي: ولا تقتضي التلامس، إنما هو قدر زائد، ومنه (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان: إذا افتتح الصلاة، رفع يديه حذو منكبيه) [مالك: 163]، وقول عائشة: (وكانت مَنَاةُ حذو قُدَيْد) [مالك: 832]، وقول ميمونة: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد) [البخاري: 379]. وقول عمر: (فانظروا حذوها من طريقكم [أي حذو قرن المنازل]، فحدّ لهم ذات عرق) [البخاري: 1531]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (وحاذوا بالأعناق) [أبو داود: 667].
فالمحاذاة في كلّ هذا؛ هي المقابلة وكون الشي بجنب الشي، ولا يقتضي تلاصقاً.
_ وأمّا من حيث الحكم:
فإقامة الصفوف أوكد من سدّ الفرج والتراصّ، وأمارة ذلك أمور منها:
أنّ العطف بين المأمورات لا يقتضي الاشتراك في الحكم عند جمهور الأصوليين، وهي مسألة (دلالة الاقتران)، قال في المراقي:
أمّا قران اللفظ في المشهور … فلا يساوي في سوى المذكور
وقد ورد في النصوص الشرعية عطف المتغايرات في الحكم، كعطف المندوب على الواجب في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90]، وعطف الواجب على المباح في قوله تعالى: (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ) [الأنعام: 141]، وعطف العام على الخاص، والخاص على العام، وغير ذلك.
فدلّ أن عطف التراصّ وسدّ الفرجات على إقامة الصفوف وتسويتها؛ لا يستلزم أن يكون حكمها واحدًا، أي: حتى على القول بوجوب التسوية، وهو [أي وجوب التسوية] خلاف المختار كما يأتي بيانه.
* أنّ من أوجبوا التسوية لم يوجبوا بالضرورة سدّ الفرج والتراصّ، قال ابن قاسم: (كذلك لو حضر اثنان وفي الصفّ فرجة؛ فأيهما أفضل: وقوفهما جميعا، أو سدّ أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟ رجّح أبو العبّاس [أي الإمام ابن تيمية] الاصطفاف مع بقاء الفرجة، لأنّ سدّ الفرجة مستحبّ، والاصطفاف واجب) [المستدرك على مجموع الفتاوى: 3/121].
* أنّ بعض الفقهاء حدَّ للفرجة التي لا يتمّ الصفّ إلاّ بسدّها حدًّا، ولم يجعلها مطلقة: قال ابن مفلح: (وشرط بعض أصحابنا أن يكون عرض السارية التي تقطع الصفّ ثلاثة أذرع، وإلاّ فلا يثبت لها حكم القطع، ولا حكم الخلل. ذكره الشيخ وجيه الدّين. وهذا القول هو معنى قول من قال من الأصحاب: إنّ من وقف عن يسار الإمام، وكان بينه وبينه ما يقوم فيه ثلاثة رجال؛ لا تصحّ صلاته) [النكت والفوائد السنية: 1/124]. أي: أنّ ما دون ذلك لا تبطل به الصلاة. وكذا لو انقطع الصف عن يمينه أو من خلفه. [انظر: مطالب أولي النهى: 1/695].
* أنّ بعض الفقهاء حدّ ما يصحّ أن يبعد به الصفّ عن الإمام أو عن الصفوف الموالية للإمام بثلاثمائة ذراع إن كان خارج المسجد، ما لم يحل حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة. أمّا داخل المسجد فيصحّ تباعد الصفوف مطلقا، أي: مع كونه خلاف السنة في الاتصال. [انظر: المجموع: 4/302-306].
والشاهد من هذه العناصر المنضوية تحت عنوان (شرح المصطلحات) أنّ التراصّ وسدّ الفرجات وتقارب الصفوف قدرٌ زائدٌ على إقامة الصفوف وتسويتها، وأنّ محلّ التشديد هو عدم إقامة الصف، والصلاة منفردًا خلف الصف، أمّا تقارب الصفوف، وتقارب المصلين؛ فأمره أخفّ.
وهذه المقدّمات سقناها لإفادة كون الصلاة بالتباعد على ما هي عليه في المساجد تفاديًا للعدوى بفيروس كوفيد-19؛ يتحقّق فيها إقامة الصفوف وتسويتها الذي هو محلّ تشديد بعض الفقهاء، وإنما يتخلّف تقارب المصلّين، وهو أخفّ من الأوّل. كما أنّ هذا الكلام كلّه وارد على مراعاة قول من قال بوجوب إقامة الصفوف وتسويتها، وما يظنّ من عطف وجوب سدّ الفرجات على ذلك، ثم على فرض عدم العذر، أمّا على الراجح المختار في هذا الخلاف، والذي يتأكّد بقيام العذر، فصحة هذه الهيئة في الصلاة أبين وأوضح، وإليك بيان ذلك.
ثانيا: جماهير العلماء على أن هذه الهيئات كلها مسنونة، ولا يجب منها شيء
خلافا لابن حزم، وللظاهر من كلام ابن تيمية، ولابن حجر، والعيني، والصنعاني؛ قال عامّة أهل العلم في المذاهب الأربعة وغيرها أنّ إقامة الصفوف وتسويتها وإتمامها وتقاربها وسدّ الفرجات وتراصّ المصلّين؛ أنّ كلّ ذلك من سنن صلاة الجماعة، لا من واجباتها.
قال الحافظ زين الدين العراقي في أحاديث الأمر بإقامة الصفوف وتسويتها: (هذا الأمر للاستحباب … وهذا مذهب جمهور العلماء من السَّلَف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة) [طرح التثريب: 2/325].
واستدلّوا بما يلي:
* قوله صلّى الله عليه وسلّم: (سوُّوا صفوفكم؛ فإنّ تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) [البخاري: 723]، وقوله في الحديث الذي قبله: (وأقيموا الصفّ في الصلاة، فإنّ إقامة الصفّ من حسن الصلاة) [البخاري: 722]، وفي لفظ ابن ماجة وأحمد وغيرهما: (فإنّ تسوية الصفوف من تمام الصلاة) [ابن ماجه: 993؛ أحمد: 12813].
قال ابن بطّال: (هذا الحديث يدلّ أنّ إقامة الصفوف سنّة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنّه لو كان فرضًا لم يقل -عليه السلام-: فإنّ إقامة الصفوف من حسن الصلاة؛ لأنّ حسن الشيء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب) [شرح البخاري: 2/347].
* عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصفّ، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: (زادك الله حرصًا ولا تعد) [البخاري: 783].
أي: فلم يأمره بالإعادة، فدلّ على صحة صلاته. والصلاة خلف الصف متضمنة لعدم وصل الصف، أي لعدم سد الفرجة أو الفرج التي فيه. وإذا صحّت صلاةٌ خلف صفّ مع تفريج الذي قبله، فلأن تصحّ الصلاة في نفس الصفّ المفرّج أولى.
قال الخطابي: (فيه دلالة على أنّ صلاة المنفرد خلف الصفّ جائزة؛ لأنّ جزءاً من الصلاة إذا جاز على حال الانفراد جاز سائر أجزائها. وقوله: «ولا تعد»: إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل، ولو لم يكن مجزياً لأمره بالإعادة) [معالم السنن: 1/186].
* عن أنس بن مالك، أنه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منّا منذ يوم عهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: (ما أنكرتُ شيئا إلاّ أنّكم لا تقيمون الصفوف) [البخاري: 724].
وفيه دلالتان:
– الأولى: ما كان لأهل المدينة أن يجتمعوا على ترك فريضة علموها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين يحتجّ الأئمة بعملهم، فيقوّي ذلك حكم الفضيلة والاستحباب في شأن إقامة الصفوف وتسويتها، وهو الذي يُتصوّر فيه التخفّف، أو التقصير من بعضهم، لا من كلّهم. ولا يقال: إنّ الإنكار لا محلّ له إلاّ ترك الفرض، وما ليس فرضًا فتركه ليس منكراً، لأنّ الإنكار يكون لترك الفضيلة أيضا، قال ابن رجب: (وأمّا استدلال البخاري به على إثم من لم يتمّ الصفّ ففيه نظر؛ فإنّ هذا إنّما يدلّ على أنّ هذا ممّا يُنكر، وقد يُنكَر المحرّم والمكروه) [فتح الباري لابن رجب: 6/281].
– الثاني: أنّ أنسا -رضي الله عنه- لم يأمرهم بالإعادة، فدلّ على أنّه رأى فعلهم يقع صحيحاً وإن فاتتهم السنة. [انظر: المرجع السابق].
* الأقيسة على صحّة صلاة من لم يتصل بصفّ في عدّة أحوال، ومنها:
– صلاة الإمام.
– وصلاة الفذ.
– وصلاة المرأة خلف الصف.
قال الإمام الشافعي: (أرأيت صلاة الرّجل منفرداً تجزئ عنه؟ فإن قال: نعم، قلت: وصلاة الإمام أمام الصفّ وهو في صلاة جماعة؟ فإن قال: نعم، قيل: فهل يعدو المنفرد خلف المصلّي أن يكون كالإمام المنفرد أمامه؟ أو يكون كرجل منفرد يصلّي لنفسه منفردا؟ فإن قيل: فهكذا سنة موقف الإمام والمنفرد، قيل: فسنة موقفهما تدلّ على أن ليس في الانفراد شيءٌ يفسد الصلاة) [اختلاف الحديث: 8/636].
وقال الباجي: (ودليلنا من جهة القياس أنّ هذا موضعٌ تصحّ صلاة المرأة فيه؛ فصحّت صلاة الرجل فيه، كالصفّ) [المنتقى: 1/190].
* قاعدة: النهي عن الشيء لمعنى في غيره لا يقتضي الفساد:
وهذا المذهب هو الذي يغلب على فروع المذاهب الفقهية الثلاثة: الحنفية والمالكية والشافعية، وقد عزاه ابن الحاجب في المختصر إلى الأكثرين [ص101، ط دار الكتب العلمية]. وحقّق ابن العربي أنّه الصحيح من مذهب مالك [المحصول: ص71]. وقال العلائي: (وهذا أرجح المذاهب وأصحّها دليلاً كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو الذي ينبغي أن يكون مذهب الشافعي وجمهور أصحابه) [تحقيق المراد: ص92].
وينبني عليه أنّ نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الاختلاف في تسوية الصف في قوله: (ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم) [مسلم: 432]، ونهيه عن ترك الفرجات في قوله: (ولا تذروا فرجات للشيطان) [أبو داود: 666]؛ لا يقتضي فساد الصلاة على الهيئة المنهية؛ لأنّ النهي منصبٌّ على أمر خارج الصلاة، لا فيها. نظيره النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، وعن الصلاة بحضرة الطعام، وفي الأماكن المنهي عنها … إلخ.
وعلى كلّ حال فالفرع محلّ البحث منصوصٌ للمذاهب كما سبق بيانه، ولسنا بصدد تخريجه تخريجاً محتملاً على هذه القاعدة، ولكن بصدد بيان أنه جار عليها، وجريان الفروع مع الأصول والقواعد يزيدها قوّةً ورجحانًا.
– أمّا استدلال المخالفين بحديث وابصة بن معبد: (أنّ رجلاً صلّى خلف الصفّ وحده فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعيد الصلاة) [الترمذي: 231، وغيره].
ففيه الكلام في الثبوت والدلالة:
أمّا الثبوت، فقال ابن عبد البرّ: (إنّ الحديث في إبطال صلاة الرجل خلف الصفّ وحده مضطرب الإسناد، لا يقوم به حجة) [الاستذكار: 2/271].
وأمّا الدلالة على فرض ثبوته؛ فيسلك بها أحد مسلكين:
مسلك الجمع: مع حديث أبي بكرة، ومقتضاه أن يكون الأمر بالإعادة للندب، لا للوجوب، جمعًا بين الدليلين، والإعادة ندباً لا تقتضي فسادًا.
مسلك الترجيح: ويترجّح عليه حديث أبي بكرة، لكونه موافقا للقياس، وعليه عامّة أهل العلم. قال الإمام الشافعي: (فلو ثبت الحديث الذي يُروى عن وابصة؛ كان حديثنا أولى أن يؤخذ به؛ لأنّ معه القياس وقول العامّة) [اختلاف الحديث: 8/636].
* وأمّا استدلالهم بالوعيد في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ومن قطع صفًّا قطعه الله) [أبو داود: 666]، وقوله: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم) [البخاري: 717].
فأجاب عنه ابن العربي بقوله: (وهذا كان يقتضي الوجوب، إلاّ أنّ الشّرع سمح في ذلك) [عارضة الأحوذي: 2/26].
ثالثا: لا تبطل الصلاة عند الجماهير أيضا، حتى على القول بوجوب التسوية وسد الفرج.
جمهور القائلين بوجوب التسوية صحّحوا الصلاة بعدمها، وإنّما اختلفوا هل تحصل فضيلة الجماعة بغير تسوية أم لا تحصل، وهذا يتبيّن منه أنّ القول بالبطلان لم يستند إلى مجرّد الأمر بإقامة الصفوف وإتمامها، وإنّما استند إلى دليل من خارج، وهو حديث الأمر بالإعادة لمن صلّى خلف الصفّ وحده، والذي سبق بيان ما فيه.
قال البدر العيني: (فإن قيل: قوله عليه السلام: «أقيموا صفوفكم» أمرٌ قارنه التكرار، وذكر معه الوعيد على تركه، فينبغي أن تكون إقامة الصفوف واجباً. قلت: فليكن واجباً، ولكنه ليس من واجبات الصّلاة بحيث إنه إذا تركها أفسد صلاته أو نقصها، ولكنّه إذا تركها يأثم) [عمدة القاري: 3/212].
وقال ابن حجر: (ومع القول بأنّ التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسوّ صحيحة؛ لاختلاف الجهتين، ويؤيّد ذلك أنّ أَنَسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة) [فتح الباري: 2/210].
رابعا: الكراهة تزول بالحاجة:
هذه قاعدةٌ معلومةٌ معمولٌ بها لدى عامّة الفقهاء، في فروع لا تكاد تنحصر، بل نصّوا أنّ الحاجة تبيح المحرّم لغيره، فالكراهة من باب أولى. ومن الفروع المتعلّقة بتسوية الصفوف، والتي روعيت فيها الحاجة، فأزالت كراهة مباعدة الصفوف، أو كراهة ترك الفرج، ما يلي:
* مباعدة الصفوف لأجل الظلّ:
قال ابن رشد: (وسُئل مالكٌ عن صلاة أهل مكّة ووقوفهم في السقائف للظلّ لموضع الحرّ، قال: أرجو أن يكون خفيفًا. فقيل له: فأهل المدينة ووقوفهم في الشقّ الأيمن من مسجدهم، وتنقطع صفوفهم في الشقّ الأيسر، قال أرجو أن يكون واسعًا لموضع الشمس). قال ابن رشد: (خفّف انقطاع الصفوف لضرورة الشمس؛ لأنّ التراصّ في صفوف الصلاة مستحبّ) [البيان والتحصيل: 1/264-265].
وقال الرّملي: (نعم إن كان تأخّرهم عن سدّ الفرجة لعذر، كوقت الحرّ بالمسجد الحرام؛ لم يُكره لعدم التقصير) [نهاية المحتاج: 2/197].
* مباعدة الصفوف للعالـِــم مع أصحابه:
قال القرافي: (وأرخص مالكٌ للعالِــم يصلّي في آخر المسجد في موضعه مع أصحابه، وإن بعدت الصفوف عنهم، ويسدّون فرجهم) [الذخيرة: 2/262].
* الصلاة بين السواري لضيق المسجد:
قال مالك: (لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد) [المدونة: 1/195]. وقال ابن العربي: (ولا خلاف في جوازه عند الضيق) [عارضة الأحوذي: 2/28].
* الصلاة قدّام الإمام.
قال الصّاوي: («و» كُرهت صلاة مأموم «أمام» بفتح الهمزة: أي قُدّام «الإمام بلا ضرورة»، وإلاّ لم تكره) [حاشية الصاوي: 1/441].
* الصف الأول هل يقطعه المنبر؟
قال الشيخ عبد القادر الفاكهي المكي: (وسُئل -رضي الله عنه- [أي: ابن حجر الهيتمي] عن الصفّ الأوّل هل هو الذي يلي الإمام، سواءً أكان به خلل من نحو سارية، وسواء كان متّصلا بالصفوف أم لا؟ فإنّ بعض مشايخ اليمن يقول: المراد بالصف الأول هو السّالم من الخلل، وأن يكون متّصلا، ولو كان الصفّ الأخير، ولا التفات إلى الصفّ الأول إذا كان بالأوصاف المذكورة؟ فأجاب بقوله: المنقول المعتمد أنّ الصفّ الأوّل هو الذي يلي الإمام، وإن تخلّله منبرٌ أو مقصورةٌ أو أعمدةٌ أو غيرها، سواءً جاء صاحبه متقدّماً أم متأخّراً، وقيل: الأوّل ما لم يتخلّله شيء، وإن تأخّر. وقيل: هو من جاء أوّلا، وإن صلّى في صفّ متأخّر. قال في شرح مسلم [أي: النووي]: وهذان غلط صريح) [الفتاوى الفقهية الكبرى: 1/199]. [وانظر: حاشية ابن عابدين: 1/569؛ المجموع للنووي: 4/301؛ فتح الباري لابن رجب: 6/276؛ الإنصاف للمرداوي: 2/41].
ففي كلّ هذه الفروع، وغيرها كثير؛ ارتفعت الكراهة عن كون الصفّ مقطوعًا، أو غير متصل بالصفوف الأخرى، لحاجة قائمة، من مشقة وزحام وبناء لا يتغيّر، ونحو ذلك. فلأن ترتفع لضرورة تجنّب العدوى أولى وأظهر بلا أدنى ريب، عند من له أدنى مسكة من فقه، وصلة بالتشرُّع.
خامسا: الوجوب يسقط بالضرر :
أي: وحتّى على القول بوجوب سدّ الفرجات؛ فإنّ الواجبات تسقط بالضرورات، قال الإمام ابن تيمية: (فإنّ الواجبات تسقط للحاجة، وأمرُه [أي: المصلّي في الجماعة] بأن يصافّ غيره من الواجبات، فإذا تعذّر ذلك سقط للحاجة؛ كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة، في مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة … وفي الجملة: فليست المصافّة أوجب من غيرها، فإذا سقط غيرها للعذر في الجماعة فهي أولى بالسقوط. ومن الأصول الكلّية أنّ المعجوز عنه في الشّرع ساقط الوجوب، وأنّ المضطرّ إليه بلا معصية غير محظور، فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد، ولم يحرّم ما يضطرّ إليه العبد) [مجموع الفتاوى: 20\559].
سادسا: الجماعة مع نقص هيئتها أولى من الانفراد :
ويدلّ على ذلك أمورٌ عدّة، نذكر أهمّها:
* صلاة الجماعة سنة بالجزء، واجبة بالكلّ:
قال الإمام الشاطبي: (إذا كان الفعل مندوبًا بالجزء كان واجبًا بالكلّ؛ كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة … من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأنّ في تركها مضادّةً لإظهار شعائر الدّين) [الموافقات: 1/132-133].
وقال الحطّاب: (وصرّح كثيرٌ من أهل المذهب بأنّه إذا تمالأ أهلُ بلد على تركها قوتلوا، فأخذ بعضهم من ذلك أنّها فرض كفاية) [مواهب الجليل: 2/81].
وإذا كان كذلك؛ فإنّ الشعيرة المقصودة بالإظهار، والواجبة وجوبًا كفائيًا؛ لا تسقط بتعذّر هيئاتها المسنونة، وإلاّ كانت السنية قاضيةً على الوجوب، وعلى الشعيرة، وهذا باطلٌ لا شكّ فيه.
* التكملة إذا عادت على الأصل بالإبطال لم تعتبر:
قال الإمام الشاطبي: (كلّ تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط، وهو: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أنّ كلّ تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصحّ اشتراطها عند ذلك) [الموافقات: 2/13-14].
وقد مثّل الشاطبي بأمثلة من صلاة الجماعة، فقال: (وكذلك ما جاء من الأمر بالصّلاة خلف ولاة السّوء؛ فإنّ في ترك ذلك ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدّين المطلوبة، والعدالة مكمّلةٌ لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة) [الموافقات: 2/15].
فكذلك سدّ الفرج لا شكّ أنّه من تكميلات هيئة صلاة الجماعة، وليس من أصلها، فإذا عاد تلاصق المصلّين على الجماعة بالإلغاء والتعطيل، بحيث يسبّب انتشار العدوى، وإتلاف النفوس، حتّى يُمنع أو يمتنع الناس من إقامتها؛ لم يكن ذلك معتبراً.
ومن الفروع التي روعيت فيها أولوية الجماعة ولو تخلّلها أو تخلّل الصلاة نقص:
– الجمع بين الصلاتين للجماعة، مع فوات فضيلة الوقت في إحداهما.
– صلاة الخوف، مع فوات فضيلة المتابعة الكاملة للإمام.
– صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور، مع فوات فرض القيام.
– الركوع دون الصف لإدراك الركعة، مع فوات فضيلة الاصطفاف.
– وجود حائل بين الإمام وصفوف مأمومين، حيث تفوت فضيلة اتصال الصفوف.
وغيرها من الفروع الكثيرة التي تتضمن الاعتداد بأفضلية الجماعة، وإقامتها، وإظهارها، وإن تخلّلتها أوضاعٌ ناقصة.
* الميسور لا يسقط بالمعسور:
قال التاج السبكي: (من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [متفق عليه] … وذكر الإمام في أواخر الغياثي [أي الجويني]، ومن خطّه نقلت: أنّ هذه القاعدة من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة) [الأشباه والنظائر، للسبكي: 1/155].
قال الإمام ابن تيمية: (ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما، مع استدبار القبلة، والعمل الكثير، ومفارقة الإمام، ومع ترك المريض القيام؛ أولى من أن يصلُّوا وِحْدانًا … ومن اهتدى لهذا الأصل – وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها؛ فقد هدي لما جاءت به السنّة من التوسّط بين إهمال بعض واجبات الشّريعة رأسًا، كما قد يبتلى به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه، وإن كان ذلك الأوكد مقدورًا عليه كما قد يبتلى به آخرون، فإنّ فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين) [مجموع الفتاوى: 23/247].
سابعا: فضيلة الصف قدر زائد على فضيلة الجماعة:
وينبني على ما سبق أنّ فضيلة الصف قدر زائد على فضيلة الجماعة، خلافا للشافعية القائلين إنّ شرط حصول فضيلة الجماعة أداؤها بغير كراهة؛ فالحنفية والمالكية لم يشترطوا ذلك [انظر: حاشية ابن عابدين: 1/570]، والمقصود بفضيلة الجماعة حصول ثواب التضعيف إلى سبع وعشرين درجة، على أن الشافعية قالوا بثبوت بركة الجماعة وإن لم تثبت الفضيلة [انظر: بسط الكف في إتمام الصف، للسيوطي].
قال الدردير: (وجاز صلاة منفرد خلف صف، إن تعسّر عليه الدخول فيه، وإلاّ كُره، ويحصل له فضل الجماعة مطلقا) [الشرح الكبير: 1/334].
وقال الزرقاني: (وجاز صلاة منفرد خلف صفّ إنْ عسر عليه الوقوف فيه، وإلاّ كُره، مع حصول فضل الجماعة، وفوات فضيلة الصف في المكروه لا في الجائز، فتحصل لنيته الدخول فيه لولا تعسّره) [شرح خليل: 2/30].
هذا على فرض بقاء الكراهة، وإلا فقد زالت بالحاجة والضرورة على ما سبق بيانه.
ثامنا: وجوب الائتلاف في أمر الشعائر العامة حتى وإن كان مذهب المرء مختلفا:
أصل ذلك الاقتداء بالمخالف في المذهب، ولو كانت الصلاة على مذهبه تبطل، قال القرافي: (قال المازريُّ: قد حُكي الإجماعُ في الصَّلاة خلف المخالِف في المذهب) [الذخيرة: 2/248].
وقال ابن تيميَّة: (تجوزُ صلاة بعضهم خلف بعض كما كان الصَّحابة والتابعون لهم بإحسانٍ ومن بعدهم من الأئمَّة الأربعة، يُصلِّي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها. ولم يقل أحدٌ من السَّلف: إنَّه لا يُصلِّي بعضُهم خلف بعض، ومَن أنكر ذلك فهو مبتدعٌ ضالٌّ مخالف للكتاب والسُّنة وإجماع سلف الأمَّة وأئمَّتها) [مجموع الفتاوى: 23/374].
فإذا افترضنا جدلا أنّ القول بعدم صحة الصلاة بالتباعد سائغ، أو له حظ من نظر، فالواجب على من يذهب هذا المذهب أن يلزم ما عليه العمل المبني على قول جماهير الفقهاء، حفاظا على التئام شمل الأمة، واجتنابا للفرقة.
والله تعالى أعلى وأعلم
أعضاء الهيئة الموقعون على الاستشارة
سماحة الشيخ لخضر الزاوي
أد. عبد الحق حميش // أد. عبد القادر داودي // أد. مـخـتـــار حمحامي // أ. مـحـمّد سـكحال // أ. سـمـير كــيــجــاور // أد. يونس صوالـحي// د. عبد العزيز بن سايب // أد. عبد القادر جدي // د.محمّـــد هـنـدو // أد. مـاحي قـنـدوز