صدرت بتاريخ: الجمعة 02 محرم 1442ه
مجال الاستشارة: الفقه [قضايا القطاع الطبي]
جوابًا على السؤال الآتي:
عندنا في دراسة الطب؛ السنة الأخيرة سنة تربصات (4 تربصات في السنة)، وهناك ظاهرة منتشرة، وهي بيع أيام العمل والمناوبات الليلية، وبيع التربصات، بمعنى أن يحضر المناوبة أو التربص أو يوم العمل طالب متخرّج في مكان طالب آخر (أحيانا لأعذار السفر، أو التحضير للامتحانات، أو الطالبة المتزوجة … ونحوها)، مقابل مبلغ مالي، إلى درجة أن البعض يمارسها بشكل راتب كمصدر للدخل، فهل هذا جائز؟
خلاصة الاستشارة:
حضور التربّصات والمناوبات وأيّام العمل، واجبٌ شرعًا كما هو واجبُ قانونًا وتنظيمًا، وذلك في حقّ كلٍّ من الطالب الملزم بالمناوبة، والطبيب الذي تعيّنت عليه.
التغيّب عن التربُّص، أو المناوبة، أو يوم العمل؛ لعُذْر من الأعذار المعتبرة شرعًا أو قانونًا، أو للأوضاع العرفية التي يُــقدِّر مديرُ العمل الثقةُ المؤتمن أنّها أعذارٌ صحيحة، غير مُـخلّة بحُسْن سير العمل، ولا بالمصلحة العامّة المتعلّقة به؛ جائز، بشرط اتخاذ الإجراءات الضرورية في إعلام الإدارة واستـئذانها، والتفاهم معها على صفة الاستخلاف والاستنابة.
رعي الأعذار العُرفية للعاملين، والمرونة في التعامل مع ظروفهم، والرفق بهم، وعدم إعناتهم والإضرار بهم، واجبٌ شرعًا.
الطالب إذا تكرّر غيابه عن المناوبات تكرّراً كثيرًا، بحيث يُخلّ ذلك بتكوينه، سواءً تغيّب لأعذار معتبرة أو غير معتبرة، وسواءً أذنت له الإدارة في الغياب أو لم تأذن، يجب عليه الخضوع للنظام التعليمي في إعادة التربصات والمناوبات واستدراكها، ولا يجوز تفويتها بأي شكل من أشكال التحايل.
. إذا غاب الطبيب عن المناوبة أو العمل لعذر معتبر قانونًا، أو بإذن مدير العمل الثقة المؤتمن؛ حلّ له الأجر الذي يأخذه، ولو لم يقابله عمل، أمّا إذا كان الغياب لغير عذر معتبر، أو بغير إذن المدير، أو بإذن مديرٍ محابٍ غير حريص على حقّ العمل؛ فلا يحلّ أخذ القسط من الأجرة المقابل للقسط من العمل الذي غاب عنه، حتى يعوّض ذلك العمل، فإن لم يعوّضه ردّ الأجرة لمصدرها.
إذا استخلف الطبيب من ينوب عنه في عمله، على أن يأجره أجرة؛ جاز إن كان بإذن إدارة المستشفى، ولعذر معتبر شرعا أو عرفا أو قانونا، سواء بمثل الأجرة الأولى، أو أقل، أو أكثر، بشرط أن يكون المستأجر الثاني في مثل كفاءة الأول درجة وتخصّصا. أمّا إذا كان الاستخلاف بغير إذن الإدارة، أو لغير عذر؛ فلا يجوز، والإجارة عليه لا تجوز تبعا لذلك.
طالب الطبّ ليس أجيراً، بل متكوّن، وعمله الذي يقدّمه للمستشفى ليس محلّ تأجير، فلا يجوز له أن يستأجر من يستخلفه، ولا يجوز لمن استخلفه أن يأخذ على ذلك أجرة، ولكن يجوز له بالتنسيق مع إدارة المستشفى أن يستخلف من يعمل عمله حال قيام العذر المقبول.
في الأحوال المشروعة للاستخلاف على النحو الذي بيّناه؛ إذا امتهن بعض الأطباء الأكفاء استخلاف زملائهم مقابل هذه الأجور، حتى يصير ذلك أشبه بعمل لهم، فذلك جائز لا حرج فيه. وإنّما الحرج في الاستخلاف غير المشروع، الذي لا يتقيّد بالشروط المذكورة.
أولا: تصوير المسألة
يجتاز طالب الطبّ في السنة الأخيرة من دراسته تربّصات تكوينية إجبارية في النظام التعليمي، وهي ضرورية لاكتساب الخبرة العملية والميدانية في مهنة الطبّ، وهذه الخبرة شرطٌ أساسيٌّ في وصول الطّبيب إلى الكفاءة والمهارة المطلوبة في المهنة، وممّا هو تابعٌ لهذه التربّصات التكوينية حضور مناوبات طبّية في المستشفيات، في المصلحة الطبية التي يجتاز فيها الطالب تربّصه، أو في مصلحة الاستعجالات.
والمناوبة هي مدّة من الزمن (24 ساعة مثلاً) يقوم فيها المناوب رفقة فريق من الأطبّاء (عامّين، ومتخصّصين، وطلبة) على المرضى الذين يتلقّون العلاج في المصلحة، لكلّ مناوب حسب درجته واختصاصه مهام محدّدة، فالمناوبة ليست خاصة بالطلبة، ولكن أيضا بالأطباء لتغطية الحاجة إلى القيام على المرضى والتكفل بهم.
وهذه المناوبات هي نظامٌ سارٍ على مدار السّاعة، تتناوب عليه فِرقٌ طبّية، تقوم إدارة المستشفى بتحديد أسماء أعضائها، وإعلامهم بذلك، كما تسهر على فرض الالتزام بها، لأنّ الإخلال بها يترتّب عليه إخلال بالقيام على المرضى وواجبات استشفائهم، حيث تقوم إدارة المستشفى بتسجيل أي غياب عن المناوبة، وفرض العقوبة القانونية على الغائب.
كما أنّ المناوب إذا كان طبيبًا موظّــفًا يتلقّى مكافأة مالية على المناوبات التي يقوم بها، زيادةً على راتب عمله، أمّا الطالب فيتلقى منحة التربص الذي تندرج هذه المناوبات ضمنه، زيادة على تكوينه المجاني.
وإذا كان كذلك؛ فهناك حالات يقع فيها بعض المعنيّين بالمناوبة في أعذار قاهرة، تمنعهم من الالتزام بالمناوبة، كمرض، وحضور جنازة، وسفر ضروري، وقد تكون هذه الأعذار عرفية أحيانا كتزامن المناوبة مع مناسبة عائلية أو دينية كالأعياد، أو كطبيبة متزوّجة تـقع مناوبتها ليلاً، ويتكرّر ذلك عدّة مرّات في الشهر، وقد يسبّب لها ذلك مشاكل زوجية.
والأصل في مثل هذه الحالات هو القيام بالإجراء القانوني سلفاً مع إدارة المستشفى، والمتمثّل في تقديم طلب بتغيير موعد المناوبة إلى الإدارة، لتقوم بدورها بتقدير الموقف، واستخلاف صاحب الطلب بمن يقوم مقامه، بحيث لا تتعطّل المناوبة، ولا تتعرض للخلل.
وقد يحيل المديرُ صاحبَ العذر إلى أن يجتهد بنفسه في أن يستــنيب من زملائه الطلبة أو الأطباء من يقوم مقامه، فتكتفي الإدارة بحضور هذا النائب، وبأن يكون الفريق المداوم مكتملاً من حيث الدرجات المهنية المطلوبة، وذلك من باب المرونة وتسهيل الإجراء.
ولـمّا كان المناوب يتلقّى على مناوبته أجرة إذا كان طبيبًا موظّفا، فإنه يعرض تلك الأجرة أو ما يزيد عليها، على من ينوب عنه ليحفزه على قبول الاستنابة، وإذا لم يكن طبيبا وكان طالبا فإنه يعرض عليه أجرة الاستنابة أيضًا ليحفزه على القبول.
غير أنّ حالات الأعذار هذه قد يقع فيها التوسّع وعدم الانضباط، فهذا ما نبيّن تكييفه وحكمه الشرعي فيما يأتي.
ثانيا: تكييف المسألة وبيان حكمها .
1/ حكم حضور التربصات والمناوبات وأيام العمل.
حضور التربّصات والمناوبات وأيّام العمل، واجبٌ شرعًا كما هو واجبُ قانونًا وتنظيمًا، وذلك في حقّ كلٍّ من الطالب الملزم بالمناوبة، والطبيب الذي تعيّنت عليه.
أ/ بالنسبة للطالب:
أمّا وجوبها على الطالب فلأنها جزءٌ أساسيٌّ من تكوينه، فلا تــتمّ كفاءته ومهارته في المهنة إلاّ بها، والتمهّر في مهنة الطبّ قبل ممارستها مطلوبٌ يوجب الإخلالُ به الضّمان شرعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿من تطبّب ولا يُعلم منه طبّ فهو ضامن﴾ [أبو داود: 4586]، ولأنّ التمهّر وسيلةٌ إلى الإحسان المكتوب علينا في كلّ شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء﴾ [مسلم: 1955]، ولتعلّق مهنة الطبّ بإنقاذ الأنفس وإهلاكها، والإنقاذ واجب، والإهلاك أو التسبّب فيه محرّم.
ب/ بالنسبة للطبيب:
وأمّا وجوبها على الطبيب؛ فلتحصيل الكفاية في العناية بالمرضى، والقيام بالواجبات الطبية في معالجتهم ودفع الضر عنهم، فلا يسع الطبيب أن يمتنع عن مزاولة المناوبات؛ لأنّ ذلك يخلّ بالكفاية الواجبة، كما أنّه إذْ يتلقّى على ذلك أجرة خاصة، فالمناوبة جزءٌ ممّا يتضمّنه عقد العمل الذي يجب الوفاء بشروطه، لقوله تعالى: ﴿يَـــٰٓـــأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِۚ﴾ [المائدة: 01]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿المسلمون على شروطهم﴾ [أبو داود: 3594، ورواه البخاري معلّقا].
2/ حكم الغياب عن التربّصات والمناوبات وأيام العمل لعذر:
أمّا التغيّب عن التربُّص، أو المناوبة، أو يوم العمل؛ لعُذْر من الأعذار المعتبرة شرعًا أو قانونًا، أو للأوضاع العرفية التي يُــقدِّر مديرُ العمل الثقةُ المؤتمن أنّها أعذارٌ صحيحة، غير مُـخلّة بحُسْن سير العمل، ولا بالمصلحة العامّة المتعلّقة به؛ فذلك جائز، بشرط اتخاذ الإجراءات الضرورية في إعلام الإدارة واستـئذانها، والتفاهم معها على صفة الاستخلاف والاستنابة. فإذا أذنت الإدارة للمناوِب بالغياب والاستخلاف جاز ذلك، ولا إثم فيه، إنّما تقع المسؤولية على مدير العمل في حسن تقدير الموقف، وتحصيل الكفاية المطلوبة، وألاّ يتهاون في ذلك أو يحابــي أو يرتشي. كما أنّ رعي الأعذار العُرفية للعاملين، والمرونة في التعامل مع ظروفهم، والرفق بهم، وعدم إعناتهم والإضرار بهم، مؤكّد في الشّرع؛ لقوله ﷺ: ﴿اللهمّ من وليّ من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم، فارفق به﴾[مسلم: 1828]. والقانون جامد، وتطبيقه بما يحقّق مقاصده دون تعسّف أو إضرار أو إعنات مخوّل إلى مديري الأعمال وسلطتهم التقديرية، فينبغي أن يكون ذلك بالحزم في موضعه، والرّفق في موضعه، لقوله ﷺ: ﴿لا ضرر ولا ضرار﴾، وقوله: ﴿من ضارّ أضرّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه﴾ [أبو داود: 3635].
كما أنّ الطالب إذا تكرّر غيابه عن المناوبات تكرّراً كثيرًا، بحيث يُخلّ ذلك بتكوينه، سواءً تغيّب لأعذار معتبرة أو غير معتبرة، وسواءً أذنت له الإدارة في الغياب أو لم تأذن، يوجب عليه الخضوع للنظام التعليمي في إعادة التربصات والمناوبات واستدراكها، ولا يجوز التحايل على ذلك بالتفاهم مع المدير.
3/ حكم أخذ الأجرة حال الغياب.
مهنة الطبّ لدى المستشفيات إجارة على عمل، فالأصل أنّ الأجرة لا تؤخذ إلاّ في مقابل العمل المقدّم، ولكن إذا غاب الطبيب عن المناوبة أو العمل لعذر معتبر قانونًا، أو بإذن مدير العمل الثقة المؤتمن؛ حلّ له الأجر الذي يأخذه، ولو لم يقابله عمل؛ لأنّ العذر القانوني يسقط حقّ المستأجر (الوظيف العمومي) في النقص من الأجرة، كما أنّ إذن مدير العمل في الغياب مع الاستخلاف مسقط لذلك الحق، وإسقاط ذلك يُحلّ الأجرة للعامل.
أمّا إذا كان الغياب لغير عذر معتبر، أو بغير إذن المدير، أو بإذن مديرٍ محابٍ غير حريص على حقّ العمل؛ فلا يحلّ أخذ القسط من الأجرة المقابل للقسط من العمل الذي غاب عنه، حتى يعوّض ذلك العمل، فإن لم يعوّضه ردّ الأجرة لمصدرها.
4/ حكم الأجرة للمستخلَف على العمل.
أ/ بالنسبة للطبيب:
إذا استخلف الطبيب من ينوب عنه في عمله، على أن يأجره أجرة؛ فباب هذه المسألة: الإجارة على الإجارة، ويُسمّى أيضا: التأجير من الباطن.
وقد نصّ بعض الفقهاء على أنّ الأجير الخاصّ -وهو الذي يعمل لواحد، أو الذي يعمل لمدّة، كالطبيب الموظّف في المستشفى؛ فإنّه أجير خاصٌّ للوظيف العمومي مدّة عمله- لا يصحّ له أن يستأجر من يقوم بعمله نيابة عنه، إلاّ لضرورة أو بإذن مستأجره، قال التسولي في «البهجة في شرح التحفة»: (إذا واجره على العمل بنفسه لا بغيره؛ فقال في الـمـتيطية: وليس للرّاعي أن يسترعي غيره إلاّ بإذن ربّها في أحد قولي ابن القاسم اه. ابن رحّال: والرّاجح الضّمان إن استرعى من هو مثله بغير إذن ربّها، وأحرى إن استرعى من هو دونه. ابن ناجي: وهذا إذا لم يجر عرف البلد بأنّ الرّاعي يأتي بمن هو مثله لضرورة، وإلاّ فلا ضمان اتّفاقا، وكذلك إن كان العرف إثباته بدونه لأنّ العرف كالنص. وفي البرزلي: إنّ الحارس يحرس الطّعام فذهب واستخلف من لا يقوى على الحراسة قال: هو ضامنٌ إلاّ أن يكون المستخلَف مطيقًا على الحرس، فلا ضمان. البرزلي: والصّواب الضّمان إلاّ أن يكون استخلف لضرورة).
وفي مسألتنا، حيث إنّ الاستخلاف محلّ المشروعية يكون بإذن إدارة المستشفى، ويكون لعذر معتبر شرعًا أو عرفًا أو قانونًا، فالإجارة على الإجارة جائزة، سواء بمثل الأجرة الأولى، أو أقلّ، أو أكثر، بشرط أن يكون المستأجر الثاني في مثل كفاءة الأوّل درجةً وتخصّصًا. أمّا إذا كان الاستخلاف بغير إذن الإدارة، أو لغير عذر؛ فلا يجوز، والإجارة عليه لا تجوز تبعًا لذلك.
ب/ بالنسبة للطالب:
هذا بالنسبة للطبيب، أمّا الطالب فهو ليس أجيراً، بل متكوّن، وعمله الذي يقدّمه للمستشفى ليس محلّ تأجير، فلا يجوز له أن يستأجر من يعوّضه، ولا يجوز لمن استنابه عنه أن يأخذ على ذلك أجرة، ولكن يجوز له بالتنسيق مع إدارة المستشفى أن يستخلف من يعمل عمله حال قيام العذر المقبول.
5/ حكم امتهان بعض الأطباء استخلاف زملائهم مقابل أجرة:
في الأحوال المشروعة للاستخلاف على النحو الذي بيّناه؛ إذا امتهن بعض الأطباء الأكفاء استخلاف زملائهم مقابل هذه الأجور، حتى يصير ذلك أشبه بعمل لهم، إذْ يجدون لذلك الوقت والجهد، لكونهم غير موظّفين، أو يفيض من أوقات عملهم ما يسمح لهم بالقيام بذلك، فذلك جائزٌ لا حرج فيه. وإنّما الحرج في الاستخلاف غير المشروع، الذي لا يتقيّد بالشروط المذكورة. والله أعلم.
أعضاء الهيئة الموقعون على الاستشارة
سماحة الشيخ لخضر الزاوي.
أد. عبد الحقّ حميش // أ. سمير كيجاور // أد. عبد القادر جدي // أد. عبد القادر داودي // أ. محمّد سكحال // د.محمّد هـندو // أد. مخـتار حمحامي // أد. يونس صوالحي // أد.ماحي قـندوز