يجدر بنا تسليط الضوء على ما قامت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من جهود مضنية من أجل الحفاظ على اللغة العربية والهوية الوطنية، في الوقت الذي تعاني فيه هذه اللّغة في بلادنا تهميشًا ومحاربةً صريحةً أحيانًا، وخفيّة أحيانًا أخرى.
إنّ وضع اللغة العربية خاصّة، والهوية الوطنية عامّة؛ قبل إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان وضعاً مزرياً على وشك الانهيار والذوبان التامّ في ثقافة المستعمر (المستدمر)، لولا أنّ الله سبحانه وتعالى سخّر هؤلاء الثلّة من العلماء والمثقّفين المصلحين والمخلصين لدينهم ووطنهم الذين أسّسوا هذه الجمعية، التي استطاعت أن تبرهن عن وطنيتها، وتمسّكها بثوابت الأمّة الجزائرية، وتثبت ذاتها رغم الحصار والمتابعة المستميتة من العدو الغاشم.
لقد عمِل الاستعمار (الاستدمار) على تشويه صورة استعمال اللغة العربية في مختلف المجالات، وعلى الخصوص في مجال الإعلام والصحافة بصفتها الواجهة المرئية التي تعكس أوضاع الأمَّة للناظر إليها من الخارج.
لكنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين آمنت أن لا سبيلَ إلى نهضة الأمَّة واسترداد عافيتها، ودورها الرّسالي إلاّ إذا بوَّأت اللّغةَ العربية مكانتَها السامقة في سُلَّم الأولويات المعرفية في التربية والتعليم والإعلام والثقافة والإدارة والشؤون الدولية، وصْلاً بين حقيقة الدِّين ونسيج اللغة وحصاد العصر، وبناءً للأجيال الحاضرة والقادمة في ضوءِ تلك المعطيات الثلاث.
وفي هذا يقول الدكتور أبو الصفصاف عبد الكريم -في رسالة للدكتوراه-: «إنّ جمعية العلماء هي التي أخرجت الجزائر من عزلتها الثقافية، وأعادت ربطها بالأمة الإسلامية، وحطّمت المقولات التي خلقها الاستعمار، وعمدت على إحياء اللغة العربية والتاريخ الوطني، وطهّرت الإسلام من الشوائب التي علقت به، ووحّدت الشعب الجزائري تحت راية الإسلام، وأحبطت حركة الاندماجيين الرامية إلى ربط الجزائر بفرنسا بواسطة جنسية المستعمر ولغته، وكوّنت الإطارات المخلصة التي فجّرت ثورة 1954م، وكانت الدعامة الأساسية لعملية التعريب بعد أن استردّت الجزائر سيادتها الوطنية سنة 1962م، ويصف الدكتور محمود قاسم في كتابه «الإمام عبد الحميد بن باديس» بأنّه الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية».
ففي سبيل تكوين أكبر أرضية يمكن أن تصل إليها الروح الجديدة؛ لم يكتف الشيخ عبد الحميد بن باديس بالخطب والمحاضرات؛ بل شجّع الصحافة العربية والإسلامية؛ التي كانت تجد كلّ عَنَتٍ من السّياسة الفرنسية وعملائها، ومن هنا فقد قام الشّيخ نفسُه بإصدار مجلّة (الشّهاب) وجريدة (التقدّم)، كما ساعد في تحرير جريدة صديقه الشيخ البشير الإبراهيمي (البصائر)، وفي مجلات: السنة، والشريعة، والصراط، وجريدة المرصاد، وغير ذلك من المجلات والجرائد التي تسير مع طريق الشيخ، وطريق جمعية العلماء المسلمين.
لقد اهتمّت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمسألة اللّغة أهمية كبيرة، فعملت على تثبيتها والذّود عنها، ونشرها وترقيتها واستخدامها في كلِّ شؤونها، وقد تجلّى هذا أكثر ما تجلّى في وسائل إعلامها، التي كانت كلّها ناطقة بلغة الضاد، إلاّ مجلّة “الشاب المسلم” التي كانت تصدر باللّغة الفرنسية، وقبلها جريدة “الدفاع”، فكلّ ما وصلنا من فكر الجمعية ونضالها كان عن طريق وسائل إعلامها، فأكثر ما يظهر نشر العربية وتطويرها في الواقع الجزائري، هو استخدامها الواسع في جرائد ومجلات الجمعية، فمقالات ابن باديس، والإبراهيمي، والعقبي، والميلي، والعربي التبسي، وتوفيق المدني، وغيرهم من علماء الجمعية، كانت تحمل ثراءً لغوياً قرأه واستفاد منه ذلك الجيل الذي عايش مسيرة الجمعية، وقد كان هذا من الأهداف المسطّرة منذ البداية، فإحياء اللّسان العربي كان إلى جانب الدّين الإسلامي، والوطن الجزائري، مكوّناً لذلك الشعار الخالد: «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا».
وممّا كتبه الإبراهيمي -رحمه الله- في مجلّة الشهاب: «إنّ جمعيّتكم هذه أُسِّست لغايتين شريفتين، لهما في قلب كلِّ عربي مسلم بهذا الوطن مكانةٌ لا تساويهما مكانة، وهما: إحياء مجد الدِّين الإسلاميّ، وإحياء مجد اللّغة العربيّة»، ويتابع الشيخ شارحًا الغاية الثانية قائلاً: « وأمّا إحياء مجد اللّسان العربي، فلأنّه لسان هذا الدِّين، والمترجِم عن أسراره ومكنوناته، لأنَّه لسان القرآن الذي هو مستودع الهداية الإلهية العامَّة للبشر كلِّهم، لأنَّه لسان محمّد بن عبد الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- صفوة الله من خلقه، والمثل الأعلى لهذا النّوع الإنساني، الذي هو أشرف مخلوقات الله، ولأنّه لسان تاريخ هذا الدِّين، ومُجلِّي مواقع العِبَر منه، ولأنّه -قبل ذلك وبعد ذلك- لسان أمَّة شغلت حيِّزاً من التاريخ بفطرتها وآدابها وأخلاقها وحكمها وأطوارها».
وإلى جانب الوسائل الأخرى التي اتّخذتها الجمعية من دروس محو الأمِّية، وتحفيظ القرآن في الكتاتيب، وتدريسها في المدارس التابعة لها، وإلقاء المحاضرات والندوات وأسمار الأدب والشّعر، أدّت وسائل الإعلام التابعة لجمعية العلماء دوراً كبيراً في الحفاظ على اللّغة العربية في الجزائر.
يقول الإمام المؤسّس الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: «قد فهمنا -والله- ما يُراد بنا، وإنّنا نُعلن لخصوم الإسلام والعربية أنّنا عقدنا على المقاومة المشروعة عزمَنا، وسنمضي -بعون الله- في تعليم دِيننا ولُغتنا، رغم كلِّ ما يصيبنا، ولن يصدَّنا عن ذلك شيء، فنكونَ قد شاركنا في قتلهما بأيدينا. وإنّنا على يقين من أنّ العاقبة -وإن طال البلاء- لنا، وأنّ النصر سيكون حليفَنا، لأنّنا قد عرَفنا إيمانًا، وشاهدنا عيانًا أنّ الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما، ولو اجتمع الخصوم كلُّهم على محاربتهما».
ويكتب الإمام في جريدة البصائر قائلاً: «حُوربت فيكم العُروبة حتى ظُنّ أن قد مات منكم عِرْقُها، ومُسخ فيكم نُطقُها، فجئتم بعد قرن، تَصْدَحُ بلابِلُكم بأشعارها، فتثير الشعور والمشاعر، وتهدر خطباؤُكم بشَقَاشِقِها، فتدكُّ الحصونَ والمعاقلَ، ويهز كتَّابكم أقلامَها، فتصيب الكِلَى والمفاصل».
ونختم بكلمة جامعة لشيخ العربية وأمير بيانها الشيخ البشر الإبراهيمي، فيما حقّقته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المجتمع الجزائري، من تثبيت دعائم اللغة العربية فيقول رحمه الله: «هذا بعض ما قدَّمته جمعيّة العلماء للعروبة من صنائع لهذا الوطن، تفخر به في غير منّ، وتجود به من غير ضنّ، ولولا الحياء لقالت أكثر من ذلك، ولَتَحَدَّتْ كلَّ العاملين في الشرق العربي لرفعة العربية وإعلاء شأنها بين اللّغات بأنّها عمِلت لها أكثر ممَّا عمِلوا؛ عمِلوا لها وهم أحرار آمنون، في بلدٍ لسانُه وجنسُه عربيّان، وحاكِمُه ومحكومُه عربيّان، وعمِلنا لها تحت تأثير زمجرة الاستعمار ودمدمة أنصاره، وأنقذناها من بين أنيابه وأظفاره .. ».
شارك المنشور على
Share this content