إننا عندما نقوم بتشخيص سريع لواقع المجتمع، وتتبّع مشكلاته وأمراضه المعقّدة، يظهر لنا أنّ من بين أسباب ذلك:ترك العمل الإصلاحيّ في المجتمع، وتراجعه وانحساره، فمن الملاحظ أنّ الساحة الثقافية أُصيبت بجفاف كبير، وهو ما أتاح الفرصة لكل التيارات والأفكار والثقافات الغريبة عنّا من الشرق والغرب أن تخترق نسيجنا الاجتماعي، وتستوعب شبابنا، وتخلق رأيًا عامًّا لها، ممّا يشكّل خطراً على انسجامنا ووحدتنا في قادم الأيام والأعوام، لو بقي الوضع على حاله.
وليس الخطب في عزوف بعض الأفراد هنا وهناك عن العمل الإصلاحي، فمنذ بداية البشرية والناس على فئتين، فئة تحمل الدعوة والأخرى تحملها الدعوة، ولكن عندما ينتشر العزوف، ويعمّ ويتحوّل إلى ظاهرة، عندئذ يصير مشكلة حقيقية كما هو واقع الحال.
إنّ المجتمع في حاجة ماسّة إلى جميع طاقاته وكفاءاته، صغيرهم وكبيرهم، من أجل القيام بوظيفة الإصلاح، قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105]، وقد أدرك ورقة بن نوفل أهمية هذا الدور في المجتمع حينما تمنّى أن يخدم الرسالة بقوة الشباب، فقد قال: « يا ليتني فيها جذعا ».
وقد بيّن الأستاذ مالك بن نبي أنّ امتداد وفعّالية الجهود المنافسة للعمل الإصلاحي الوطني تعود إلى «أنّ مواردهم وإمكاناتهم مستمدّة من سباتنا».
ألا نستشعر الغيرة ونحن نرى شيخًا كبيرًا؛ عوض أن يخلد إلى الراحة في خريف عمره، تمنّى أن يُسهم بقوة في عملية التغيير، رغم معرفته بمخاطرها؟ ولذلك أعلن بلسان حاله: «لا تقاعد طالما أنا فوق الأرض»، فلماذا العزوف عن العمل الإصلاحيّ إذا؟
وسأذكر بعض أسباب العزوف وعلاجاتها حسب تجربتي المتواضعة، وأرجو أن تثروا الموضوع بتجاربكم كذلك.
أولا: اليأس.وذلك لعدم وجود نتائج مشجّعة في المجتمع، فيقع الفرد في حالة الملل، ثم اليأس الذي يؤدّي إلى الفتور، ثم التوقّف عن العمل الإصلاحيّ.
وعلاجه: يتمثل في تربية الأفراد على سنن التغيير، وأن ما لا يظهر لا يعني أنه غير موجود، فنحن نغرس الأشجار ولا نقطف ثمارها إلا بعد سنوات، وقد لا نسقيها ولا نتعهدها، ومع ذلك لا نيأس.
ثانيا: الإحباط. وهو حالة أصعب من الحالة السابقة، لأنّ الأولى متعلّقة بالآخَر، أمّا الإحباط فهو متعلّق بالفرد نفسه، حيث يرى عدم توفيقه، وبأنّه أقل شأنا من أن يُحدث عملاً ذا بال، ولذلك ينسحب لانعدام ثقته بنفسه.
وعلاج هذه الحالة: هو فهم إمكانات الفرد وتوجيهه إلى ما يناسب قدراته، والارتقاء به رويدًا رويدًا.
ثالثا: تغيير الوضع الاجتماعي للفرد.أي تحوّل الفرد إلى مسؤوليات جديدة، كزواج الأعزب، وعمل الطالب أو العاطل وغيرها، وهذا الوضع الجديد في حياته يجعله لا يوفّق بين المسؤوليتين. فعوض أن يغيّر من مهامه، ويعيد ترتيب أولوياته، ويضاعف من جُهده … نجده يبتعد كلّيا ويتخلّى عن دوره في الإصلاح، وينسحب من السّاحة تاركًا الثغر الذي كان مرابطًا عليه ثقافيًا وفكريًا وتربويًا …
والعلاج: هو توجيه الفرد إلى ما يناسب وضعه الجديد، فما لا يؤخذ كلّه لا يُترك جلّه. فالواجبات كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، والوسائل اليوم متوفّرة ومتاحة وسهلة الاستخدام، لتجعل الإنسان قادرًا على الإسهام في حركة الإصلاح من أيّ موقع يتواجد فيه.
رابعا: التأثير السلبي للأزمات التي يمر بها المجتمع. العمل الإصلاحي يتأثر بالظروف التي يمرّ بها المجتمع، فينحسر ويضيق في الأزمات، ويبتعد عنه غالبية الناس وينصرفون إلى مشاغلهم ومصالحهم، خوفًا وضمانًا للحياد، حتّى لا يصنّفون في أيّ طرف من أطراف الأزمة، ويُبعدون عن أنفسهم ما قد يلحق بهم من أذى، والعكس تمامًا عندما يتحقّق الاستقرار، ويعمّ الأمن والهدوء والسكينة، فهذا الوضع يسهّل عودة الناس وانخراطهم في مشاريع الإصلاح.
وممّا نقدّمه من علاج: هو التأكيد على أنّ حاجة المجتمع إلى المصلحين تتأكّد أكثر في الأزمات، وأنّ الثواب والأجر يعظم عندما تتعاظم التحديات، ومن رزقه الله علمًا، وامتلك مهارة الإسهام في الإصلاح؛ فهو من المجتبين لهذه المهمّة التي وجب القيام بها.
خامسا: ثقافة الحقوق. يذكر الأستاذ مالك بن نبي أنّ من أسباب أزمتنا أنّنا أصبحنا لا نتكلّم إلاّ عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، وبالتالي نتقاعس عن العمل، ونوجّه أصابع الاتّهام للغير.
وعلاجه: نأخذه من صيدلية الأستاذ بن نبي -رحمه الله-، حيث وجّهنا إلى تجاوز ما نستحقّ من رغبات إلى ما يسودنا من عادات، ولن يتأتّى ذلك ونحن في حالة خمول، والبذرة تؤتي أكلها بالمبادرة والممارسة.
سادسا: الخلافات الشخصية. كلّ فريق يعمل إلاّ وتعتريه خلافات شخصية، قد تؤدّي ببعض عناصره إلى الانسحاب.
وعلاجه: يعود إلى قيادة الفريق، فمن مسؤولياتها معالجة المشكل عند نشأته، والسعي لتوزيع الأعمال بما يحفظ انسجام الفريق. وهذا ما كان يفعله النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، حيث بتر سبب الإشكال الذي وقع بين سيّدنا بلال، وسيّدنا أبي ذر -رضي الله عنهما-، ثم طريقة تقسيمه لأعمال حفر الخندق، تبيّن أنّ التناسق بين الأفراد مهمّ، بل وضروري.
سابعا: ضعف التوجيه. تفقد الساحة الاجتماعية عناصر فاعلة لعدم قدرتها على صناعة قادة أكفاء، قادرين على توجيه عناصر الفريق، فيحقّقون بذلك تجنّب الإسراف في الجهد والوقت. فكم من طاقات وقوى ضاعت في وسط الطريق قبل أن تحقّق هدفها. فنجد الشّباب ينفر من الطرق القديمة، كما نجد طاقات كبيرة غير مستغلّة، فعدد المتقاعدين عن الوظيفة يُعدّ بالمئات في مختلف التخصّصات، والبعض منهم يتمنّى تقديم خدمات لوطنه، ولكن لا توجد أطر تحتويهم وتؤطّرهم.
وعلاجه: بيد القائمين على العمل الإصلاحي، وذلك بإسنادهم المسؤوليات للطاقات الشبابية والميدانية، كلٌّ حسب ميوله وقدرته. كما عليها أن تراعي عنصر التجديد، وتفتح مجال العمل أمام الشريحة المهمّشة.
ثامنًا: عدم الرّعاية.يتعرّض بعد الأفراد إلى حالات نفسية أو جسدية مؤلّمة وغالــبًا يفتقدون إلى احتواء ورعاية من باقي عناصر الفريق، فيتسبّب ذلك في انسحابهم، ذلك لما يرونه من تناقض بين مبادئ سامية تعلّموها نظريا، وبين ما يرونه على أرض الواقع من ممارسات يعتريها الخطأ والخلل واللّبس.
وعلاجه: في وصية النبي -صلّى الله عليه وسلّم- التي تريدنا أن نكون كالجسد الواحد، يشدّ بعضُه بعضًا.
وفي الختام؛ نحن لا ندّعي أننا أحطنا بكل الأسباب، ولكن سلّطنا الضّوء على بعضها، معلنين أن لا تقاعد في العمل الإصلاحي، فمسيرتنا قائمة حتى يأتينا اليقين. ولنجعل نصب أعيننا قول الله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78، 79].