صدرت بتاريخ: الجمعة 14 جمادى الأولى 1441ه
مجال الاستشارة: الفقه [المعاملات المالية]
جوابًا على السؤال الآتي:
أعمل في مجال التأمينات، وأحيانا أقوم بإجراءات التأمين على الحياة للزبائن، وأنا في حيرة من أمري، هل فعل ذلك جائز أم حرام؟ مع العلم أنني إذا رفضت القيام بالإجراءات يعرضني ذلك لخطر فقْد منصب عملي في شركة التأمينات، مع العلم أيضا أن التأمين على الحياة اختياري للمؤمَّن، عكس تأمينات أخرى إجبارية في هذه الديار.
خلاصة الاستشارة:
التأمين التجاري الذي تتخذه شركات التأمين مصدرا للاسترباح من خلال تملّك فائض الأقساط، محرّم بجميع أنواعه، لاشتماله على الربا، والغرر، والجهالة، والقمار، وأكل الأموال بالباطل، وهدم مقصد التكافل.
والبديل الشرعي عنه هو التأمين التكافلي، الذي لا تستملك فيه الشركة فائض الأقساط، بل يعاد توزيعها على المتضررين، أو تستثمر لحساب المستأمنين بطرق شرعية.
وإذا كان التأمين إجباريا فيما تعلّق بالحاجات والضرورات، كالعلاج، والسكن، والمركب، ونحو ذلك، فيجوز بقدر الضرورة والحاجة فقط، وهي دفع القسط الأدنى من التأمين.
أمّا العمل في شركة التأمين؛ ففيه إعانة على هذا المسلك غير المشروع في كسب المال، والإعانة على الحرام حرام، إلا أن يكون العامل في حاجة أو ضرورة، بحيث لا يجد مصدر دخل آخر، فــيُــباح له الاستمرار في عمله إلى غاية إيجاد مصدر دخل آخر يخلو من الحرام، مع وجوب سعيه في ذلك سعيا حثيثا وعاجلا.
أولا: تصوير المسألة:
يتضمن السؤال شقين: حكم التأمينات التجارية، والتعامل بها. وحكم العمل في شركة التأمين التجاري. ولبيان ذلك لا بدّ من تصوير حقيقة عقد التأمين.
تعريف عقد التأمين التجاري:
عرّفه القانون المدني الجزائري (المادة 619) بأنه: «عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدّي إلى المؤمَّن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغا من المال، أو إيرادًا، أو أيّ عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقّق الخطر المبيّن بالعقد، وذلك مقابل قسط، أو أية دفعة مالية أخرى، يؤدّيها المؤمَّن له للمؤمِّن».
وهو لا يختلف عن تعريف القوانين الأخرى العربية منها والغربية.
ويستفاد من التعريف ما يلي:
1- عقد التأمين من العقود المستحدثة التي انتقلت إلينا من المنظومة المالية الغربية، ولم يعرفها الفقهاء المتقدمون، ولكن القواعد الشرعية في باب المعاملات المالية كفيلة ببيان حكمه الشرعي.
2- عقد التأمين من عقود المعاوضات المالية، ويقصد به أساسا من طرف شركة التأمين الاسترباح:
فهو ليس من عقود التبرعات، التي تستهدف فقط توزيع الأخطار، والإسهام في تحمّل الضرر عن الغير، كما في التأمين التعاوني، والضمان الاجتماعي، ونظام التقاعد، ونحوها، بل غاية شركة التأمين الحصول على فائض الأقساط المدفوعة من طرف المستأمنين، وهي مبالغ كبيرة، تعتبر العنصر الأساسي الذي أنشئت الشركة من أجله. ما يعني أنّ الحكم على هذا العقد خاضع لقواعد المعاوضة والاسترباح، وليس لقواعد التكافل والتبرع.
المعاوضة خاضعة لعنصر الاحتمال:
ما يجعل العقد مصنّــفا عند القانونيين والفقهاء على حد سواء ضمن العقود الغررية، حيث إنّ المستأمن قد يدفع قسطا واحدا من الأقساط، ثم يقع الحادث، ويعوّض له بأضعاف ما دفع، وقد يدفع أقساطا كثيرة مدة سنوات وسنوات، ولا يقع حادث، ولا ينال أي تعويض.
ثانيا: حكم المسألة:
التأمين التجاري وإن رأى بعض العلماء المعاصرين إباحته، كالشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد سلام مدكور، وغيرهم، إلاّ أنّ هيئــتــنا ترى حرمته شرعا، لانطوائه على مخالفة العديد من القواعد الشرعية الضابطة للمعاملات المالية في باب المعاوضات وما قُصد به الربح، وذلك على غرار ما قرّرته معظم المجامع الفقهية، والأكثرية الكاثرة من العلماء والمفتين عبر الأقطار الإسلامية، مثل:
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بتاريخ: 4/4/1397هـ.
مجمع الفقه الإسلامي، المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة 1398هـ.
مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في قراره رقم 9 (2/9)، 1406ه.
مجمع الفقه الإسلامي بالهند، الندوة الرابعة، 1991.
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، قرار رقم: 25 (7/6)، بتاريخ: 1/9/2000.
دار الإفتاء، بالمملكة الأردنية الهاشمية، فتوى رقم: 2994، بتاريخ: 13/10/2014.
المجلس الإسلامي للإفتاء، فلسطين، فتوى قم: 109، بتاريخ: 21/4/2014.
«المعايير الشرعية» الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، المعيار رقم: 26 (ط 2017).
نصّ مفتي الجزائر، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى الأسبق، المرحوم الشيخ أحمد حماني -رحمه الله-، على وجوب تنقية عقود التأمين من الشبهات وشوائب الحرام، (فتاوى الشيخ حماني: 4/202، ط دار عالم المعرفة، الجزائر، 2015).
وبيان القواعد الشرعية التي يخالفها نظام التأمين التجاري -باختصار- كالآتي:
قاعدة الضمان: أنه لا يكون إلاّ بموجب من تعدّي، أو إتلاف، أو كفالة، ولا شيء من ذلك يوجب على شركة التأمين تحمّل الضّمان شرعا، فهو التزام ما لا يلزم، وضمان ما لم يجب.
قاعدة الربا: فإنه لا تساوي بين ما يدفعه المستأمِن من أقساط، وما تعوّضه الشركة حال وقوع الخطر، فهو إمّا أقل أو أكثر، وهذا متضمّن لربا الفضل، ولربا النسيئة لكون التعويض يأتي متأخّرا عن دفع الأقساط. كما أنّ شركات التأمين تستثمر الأموال في البنوك والمعاملات الربوية، وتدفع من حصيلة ذلك الربا للمستأمنين.
قاعدة الغرر: وذلك أنّ عقد التأمين من العقود الغررية الاحتمالية المتردّدة بين وجود المعقود عليه وعدمه، لأنّ التأمين لا يكون إلاّ من حادث مستقبل غير محقّق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. وقد روى المحدثون عن جمع من الصحابة: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (الموطأ: 1345، مسلم: 1513).
ولـمّا كان عقد التأمين من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فإن الغرر يؤثر فيها بالإفساد، والغرر في التأمين كثير وفاحش، ليس ممّا يُعفى عنه.
قاعدة الجهالة: والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كلّ من طرفي العقد (المؤمِّن والمستأمِن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل إنّ ما يدفعه المؤمِّن بدلا أو عوضا عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوّغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكلّ هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدّي إلى إبطال العقد.
بل إنّ تقدير الأضرار ليس مبنيًا على أوصاف ضابطة، وكثيرًا ما يقع فيه النزاع والتحايل، فشركة التأمين تتّهم المستأمِن بأنه هو المتسبّب في الضرر، أو بأنّه افتعله، أو أدخل حادثةً في حادثة، أو كذَب في توصيفها، والمستأمِن قد يتحايل أيضًا ويفعل ذلك كلّه أو بعضه بما لا يمكن ضبطه.
قاعدة القمار: حيث إنّ كلا الطرفين معرَّضٌ للرّبح والخسارة على أساسٍ احتماليّ، فيقع الغرم بلا جنايةٍ أو تسبُّبٍ فيها، أو الغنم بلا مقابل، أو بمقابل غير مكافئ.
قاعدة أكل الأموال بالباطل: فإنّ ما تأخذه شركة التأمين من فائض الأقساط المتبقّية هو ربح غير مستحقّ، ولا يقابله عوض مكافئ، كما أنّ ما يأخذه المستأمن من التعويض الزائد عمّا دفعه من أقساط ليس مستحقا، ولا يقابله عوض مكافئ، وذلك من أكل الأموال بالباطل.
قاعدة التكافل: فليس كلّ شيء يجوز فيه الاسترباح شرعًا، وترميم الأضرار وتوزيع تحمّلها بين النّاس بابُه التكافل والتعاون، واستغلال ذلك في الاسترباح هو ابتزازٌ مفسد للنظام المالي والاجتماعي، وهادِمٌ لمقصدٍ شرعيٍّ عظيم، وهو التكافل الاجتماعي.
حكم التأمين الإجباري:
إذا كان القانون يجبر المواطنين على عقد التأمين، فيما تعلّق بضرورة من الضرورات، كالعلاج، والسكن، أو بحاجة من الحاجات، كالمركب (السيارة)، أو الأنشطة التجارية والأعمال والخدمات، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل حالة الضرورة والحاجة دون زيادة، عملا بالقاعدة الشرعية: (الضرورة تقدّر بقدرها، والحاجة تقدّر بقدرها).
حكم العمل في شركات التأمين:
بناء على كون التأمين التجاري محرَّماً، فإنّ العمل فيه يتضمّن الإعانة على هذا المسلك غير المشروع في كسب المال، والإعانة على الحرام حرام، إلا أن يكون العامل في حاجة أو ضرورة، بحيث لا يجد مصدر دخل آخر، فــيُــباح له الاستمرار في عمله إلى غاية إيجاد مصدر دخل آخر يخلو من الحرام، مع وجوب سعيه في ذلك سعيًا حثيثًا وعاجلاً.
البديل عن التأمين التجاري:
تحريم التأمين التجاري، لا يُقصد به تحريم التكافل بين المتضررين، بل ذلك مقصدٌ شرعيٌّ أصيل، ولكن يُقصد به منع الاسترباح باستغلال حاجة الناس للتكافل، لذلك فإنّ البديل الشرعي للتأمين التجاري هو التأمين التعاوني التكافلي، القائم على التبرع المحض من طرف المستأمنين لبعضهم البعض، دون وجود وسيط يستربح من تلك التبرعات، ولا بأس أن يتولى تنظيم العملية مؤسسات حكومية تأخذ أجورا مقطوعة على ما تقوم به من أعمال، أو تستثمر فائض الأقساط بالعمل فيها لصالح المستأمنين وفق صيغة من الصيغ الشرعية المعتبرة،كالشركة، والمضاربة، ونحوها، أو يوزّع فائض الأقساط على المستأمنين مجدّداً، وهكذا.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
أعضاء الهيئة الموقعون على الفتوى
الشيخ لخضر الزاوي// أد. عبد القادر جدي// د. عبد العزيز بن سايب// أ. سـمـير كـــــــجـــــــاور// أد. عبد الـحق حــميش// د. مـحمّد هندو.