الاستشارة رقم: 24 _____________________ صدرت بتاريخ: الجمعة 12 شوال 1443ه
مجال الاستشارة: الفقه [الأحوال الشخصية]
عنوان المسألة:سفر المرأة للدراسة في الخارج. ______________________________________
وقد وردت جواباً على السؤال الآتي: ما مدى جواز أن تسافر الفتاة خارج بلدها بدون محرم لغرض الدراسة، إن تمّ منحُها منحةً أو فازت في مسابقة ما، والجائزة رحلة لاستكمال أبحاث أو ما شابه. وتكون مضطرة للسفر بمفردها أو برفقة مجموعة من الطالبات؟
خلاصة الجواب:
الجواب على هذا السؤال يتضمّن تحقيق مناطين: مناط عامٍّ، ومناط خاصّ.
أمّا المناط العامُّ، فإن:
– تعليم البنات كتعليم الأبناء، مطلوب شرعًا على جهة الوجوب العيني فيما هو من فروض العين، وعلى جهة الوجوب الكفائي فيما هو من فروض الكفايات. ومن الفروض الكفائية تعلُّم البنات الاختصاصات التي تتعلَّق بالمهن والوظائف النِّسوية، مثل طبِّ النِّساء، وتعليم النِّساء، وكذا الاختصاصات التي لا تناقض فطرة المرأة وما جُبِلت عليه.
– كفاءة التعليم وجودته حيث تيسَّر تحصيلُها، مطلوبةٌ شرعًا بقدر طلب التعليم نفسه، لا سيما في الاختصاصات الدَّقيقة والخطيرة، التي تشترط لها أعلى مستويات الكفاءة والمهارة، وإذا كان ذلك لا يتأتَّى إلا بالسّفر، فحكم الوسيلة كحكم مقصدها.
– إذا اعتور المسألة مفاسد متوقَّعة، ومصالح مجتلبة؛ نُظر في الجانبين بالموازنة.
– تعلُّم المرأة في بلاد أجنبية دون رفقة محرم فيه مسألتان:
مسألة السفر: فالنصوص الواردة باشتراط المحرم في سفر المرأة مقيّدةٌ بالزمان، وهو: سفر يوم وليلة، ومفهومه: أنّ ما دون ذلك لا يشمله النَّهي. كما أنَّ علَّة هذا التقييد هي الأمن على النَّفس والعرض والمال، فحيث كان الأمن مستَيْقَنًا أو غالباً ارتفع المحذور. وإذا كان كذلك؛ فسفر المرأة في الطائرة في زماننا المعاصر معظمه لا يستغرق يومًا وليلة، كما أنّ الغالب أنَّ المرأة داخل المطار وداخل الطائرة آمنُ على نفسها وعرضها ومالها منها خارجه؛ لاضطلاع فِرَق أمنية كاملة بمهام التَّأمين، وإجراءات الوقاية.
مسألة الإقامة: إذا انقضى السفر بالوصول، ونوى المسافر الإقامة، فإذا كانت بلاد الإقامة الجديدة إسلاميةً، فحكم المرأة فيها كحكمها في بلدها فيما يحلُّ لها ويحرم، لا يختلفان في شيءٍ من ذلك، لأنّ بلاد الإسلام واحدة، وحكمها واحد. وإذا كانت بلاد الإقامة بلاد كفر؛ فإن أحكام الإقامة فيها -فيما دار عليه كلام الفقهاء- منوطة بأمرين، هما:
– طبيعة العلاقة بين دولة المسلمين ودولة الإقامة: حرب أم سِلْم.
– مدى تمكُّن المسلم من استيفاء حقوقه الدِّينية والمدنية.
والواقع المعاصر اليوم يقضي بأمور؛ منها:
– أنّ العلاقات الدولية قائمة على المعاهدات السِّلمية في معظمها.
– أنّ البلاد غير المسلمة تستوطنها جاليات إسلامية كبيرة، تعدُّ بالملايين، وأنّ هذه الجاليات متجمِّعة في أحياء ومناطق، ولها ممثِّلون في مراكز إسلامية وجمعيات ونواد مختلفة؛ بل نواب في المجالس الشعبية، وأنّ مصالحها الدِّينية والدُّنيوية منتظِمة وفقًا لذلك.
– أنّ هذه الجاليات ممكَّنة في الأغلب من إقامة شعائرها، وتربطها بالدولة الحاكمة حقوق وواجبات سلمية.
وعلى هذا الأساس فالطَّالبة المرفوقة بمثيلاتها من الطَّالبات، والسَّاكنة بحيٍّ جامعيٍّ، أو إقامة يكثُر فيها المسلمون، ومساجدهم، ومراكزهم، وجمعياتهم التي تمثِّلهم؛ إقامتها جائزة من حيث المناط العامُّ، ويبقى تحقيق المناط الخاصِّ في كل طالبة بعينها كما يأتي ذكره.
وأمّا المناط الخاص:
فهو النَّظر لكلِّ حالةٍ على حدتها من جهات، وهي:
– أمن الفتنة على الدِّين في نفس المرأة المعنيَّة من جهة ما يغلب عليها من رِقَّة الدِّين أو صلابته.
– حاجتها الحقيقية للدِّراسة في الخارج، وأنَّ الدِّراسة المحلِّية لا تغني غناءها.
– النَّظر في نوع التَّخصص، ومدى إباحته في حقِّ المرأة.
– توفُّر الرُّفقة المأمونة في سفرها وإقامتها.
– ظروف إقامتها في البلاد المهاجَر إليها من حيث التمكُّن من إقامة شعائر الدِّين، ومن حيث الأمن على الدِّين والنَّفس والعرض.
وغير ذلك من المسالك الدَّقيقة، فيفتى بحسب ذلك في كلّ حالة على حدة، وهذا معلوم من قاعدة إضافية الأحكام، وتغيُّرها بتغيُّر الأشخاص والأحوال.
تفصيل الجواب:
المسألة الأولى: سفر المرأة بدون محرم.
أولا: ذكر نصوص تقييد سفر المرأة بالزَّمان والمحرَم:
وردت النُّصوص مقيِّدةً سفر المرأة بثلاث ليال، وأخرى بيومين، وأخرى بأكثر من ثلاث، وفي حديث ابن عمر{ بثلاثٍ مُطْلقة، وفي حديث أبي هريرة > مسيرة ليلة، وفي أخرى عنه بيوم وليلة، وفي أخرى عنه ثلاثا، وفي أخرى من حديث ابن عبّاس { مطلقة من غير تقييد؛ وقد أوردها مسلم في صحيحه باختلاف ألفاظها ورواياتها على النحو الآتي:
– عن ابن عمر { أنّ رسول الله قال: «لا تسافر المرأة ثلاثًا إلاّ ومعها ذو محرم»، وفي رواية: «ثلاثةً»، وفي رواية: «مَسِيرةَ ثلاثَ ليالٍ» [مسلم: 1338].
– عن أبى سعيد الخدري أنَّه سمع النبيَّ يقول: «لا تسافر المرأة يومين من الدَّهر إلاّ ومعها ذو محرم منها، أو زوجها»، وفي رواية: «نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلاّ ومعها زوجها أو ذو محرم». [البخاري: 1864]، وفي رواية: «لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلاّ مع ذي محرم »، وفي رواية: «أكثر من ثلاث، إلاّ مع ذي محرم» [مسلم: 827].
– أنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله : «لا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ تسافر مسيرة ليلة إلاّ ومعها رجل ذو حرمة منها»، وفي رواية: «مسيرة يوم إلاّ مع ذي محرم »، وفي رواية: «مسيرة يوم وليلة إلاّ مع ذي محرم عليها»، وفي رواية: «لا يحلّ لامرأة أن تسافر ثلاثاً إلاّ ومعها ذو محرم منها» [مسلم: 1339].
عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيّام فصاعدًا إلاّ ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها» [مسلم: 1340].
عن ابن عبّاس { قال: سمعتُ النبي يخطب يقول: «لا يخلُوَنّ رجلٌ بامرأة إلاّ ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله؛ إنّ امرأتي خرجت حاجَّة، وإنّي اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا؛ قال: انطلق فحُجّ مع امرأتك» [البخاري: 1862؛ مسلم: 1341].
وهذه الأحاديث كلُّها لا تنافي بينها ولا تنافر؛ لاحتمال أن تكون وردت في أسئلة مختلفة ونوازل متفرّقة، فيُحدِّثُ كلٌّ بما سمع؛ وحينئذ فلا مفهوم لها، كما يمكن التلفيق بينها بأن يكون اليوم المفرد والليلة المفردة المراد بهما اليوم والليلة مجتمعين، فأطلق البعض وأراد الكلّ، والمراد باليومين مدّة المغيب في الذهاب والإياب، وبالثلاثة زيادة يوم الإقامة.
وقال القاضي عياض: «وقد يكون هذا كلُّه تمثيلاً لأقلِّ الأعداد؛ إذ الواحد أوَّل العدد وأقلُّه، والاثنان أوَّل التَّكثير وأقلُّه، والثَّلاث أوَّل الجمع، فكأنَّه أشار أنَّ مثل هذا في قلَّة الزَّمن لا يحلُّ لها السفر فيه مع غير ذي محرم، فكيف بما زاد؟ ولهذا قال في الحديث الآخر: «ثلاثة أيّام فصاعداً»[إكمال المعلم بفوائد مسلم: 4/447].
وفي هذه الأحاديث بمجموعها نظران فقهيان:
الأوَّل: أنَّ تحديد الزَّمان بيوم وليلة -وهو الذي ورد في أكثر الأحاديث، وهو أقلُّ ما قُيِّدت به المدَّة-؛ مقيِّد لحديث ابن عبَّاس الذي أُطلِق فيه الزَّمان؛ للاتِّفاق على حمل المطلق على المقيَّد إذا اتَّفق السَّبب والحكم، ومفهومه جواز خروج المرأة من غير محرم إذا كانت المدَّة دون اليوم واللَّيلة.
قال ابن البرّ: « لأنَّ في هذا الحديث دليلاً على إباحة السَّفر للمرأة فيما دون هذا المقدار مع غير ذي محرم؛ فكان ذلك في حكم خروج المرأة في حوائجها إلى السُّوق وما قرب من المواضع المأمون عليها فيها في البادية والحاضرة، وأمَّا اليوم واللَّيلة فظَعْنٌ وانتقال، يكون فيه الانفراد، وتعترض فيه الأحوال؛ فكان في حكم الأسفار الطِّوال، لأنَّ كل ما زاد عن اليوم والليلة من المدَّة في نوع اليوم والليلة وفي حكمها» [الاستذكار: 21/52].
وضابط المحارم من النساء عند العلماء: كلّ من يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد بسببٍ مباحٍ لحرمتها. فيخرج بالتَّأبيد أخت الزوجة وعمَّتُها، وبالسبب المباح أمُّ الموطوءة بشبهة وبنتُها، وبحرمتها الملاعنة [فتح الباري: 4/77].
الثَّاني: أنَّ علَّة النَّهي التي تنتظم في سلكها كلُّ هذه الآثار؛ هي الأمن على النَّفس والعرض والمال، فحيث كان الأمن مستَيْقيًا أو غالباً ارتفع المحذور.
قال ابن عبد البرّ: «والذي جمع معاني آثار هذا الحديث -على اختلاف ألفاظه- أن تكون المرأة تُمنَع من كلّ سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة، إلاّ مع ذي محرم أو زوج، قصيرًا كان السَّفر أو طويلا» [الاستذكار: 8/533].
ثانيا: سفر المرأة مع رفقة مأمونة في حجّ الفريضة.
ثانيا:سفر المرأة مع رفقة مأمونة في حجّ الفريضة:
جوَّز جمهور الفقهاء سفر المرأة من غير محرم مع رفقة آمنة لحجِّ الفريضة، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصري، وقال الحسن: «المسلم مَحْرم، ولعلّ بعض من ليس بمحرمٍ أوثق من المحرم»، وكان ابن عمر يحجُّ معه نسوةٌ من جيرانه [شرح ابن بطال على صحيح البخاري: 4/532]، وقد خرَّج البخاري في باب حجّ النّساء بسنده أنَّ: «عُمَر أَذِن لأَزواج النبيّ في آخر حَجَّة حَجَّها، فبعث معهُنَّ عثمان بن عفّان، وعبد الرّحمن بن عوف» [البخاري: 1860]،قال ابن حجر:«ونساء النّبي كُنَّ يَحْجُجْنَ إِلَّا سَوْدَةُ وزينبُ، فقالا: لا تحرِّكُنا دابّةٌ بعد رسول اللَّه »[فتح الباري: 4/74].
وممّن قال بجواز خروج المرأة لحجِّ الفريضة من غير محرم مالك والشافعي والأوزاعيِّ؛ «فأمَّا مالكٌ والشافعيُّ فقالا تخرج مع جماعة النِّساء. قال الشَّافعي: وإذا خرجت مع حُرّة مسلمة ثقة لا شيء عليها» [الأم: 2/128].
«وقال الأوزاعي: تخرج مع قومٍ عُدُول … وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به، وروى أيوب عن محمّد أنّه كان إذا سئل عن المرأة لم تحجَّ وليس لها محرم، فربّما قال: إنما المؤمنون إخوة، ويقول: رُبَّ من ليس بمحرم أوثق من محرم» [التمهيد: 21/50].
وجوَّز الباجي خروجها في القوافل العظيمة والطرق المشتركة العامرة من باب أولى [المنتقى: 3/82].
ثالثا:سفر المرأة مع رفقة مأمونة في حجّ التطوّع، وفي كلّ سفر مباح.
جوَّز بعض الفقهاء سفر المرأة في حجِّ التطوُّع، وفي كلّ سفر مباح، ونُسِب هذا المذهب لابن تيمية وبعض الشَّافعية؛ قال النووي: «هل يجوز للمرأة أن تسافر لحجِّ التَّطوُّع، أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة؟ فيه وجهان [أي: الجواز وعدمه] -وحكاهما الشيخ أبو حامد، والماوردي، والمحاملي، وآخرون من الأصحاب في باب الإحصار، وحكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وغيرهم» [المجموع: 7/87].
وقال ابن مفلح: «وعند شيخنا [أي: ابن تيمية] تحجُّ كلُّ امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إنَّ هذا متوجِّه في كلِّ سفر طاعة. كذا قال، ونقله الكرابيسيُّ عن الشافعيّ في حجَّة التطوُّع. وقال بعض أصحابه: فيه وفي كلّ سفر غير واجب كزيارة وتجارة» [الفروع: 5/245].
واستدلَّ من ذهب إلى الجواز بحديث الظعينة الذي جاء فيه: «فإنْ طالَتْ بِكَ حياةٌ، لَتَرينَّ الظَّعينةَ ترتحل من الحيرة، حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلاّ الله» [صحيح البخاري: 3595]، واعتُرِضَ بأنَّه يدلُّ على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب عنه: بأنَّه خبرٌ في سياق المدح ورفع مَنَار الإسلام، والإخبار بقوّته وكثرة أهله، ووقوع الأمن بسبب ذلك؛ فيُحمَل على الجواز [عمدة القاري للعيني: 10/222].
والظَّعينة: هي المرأة المسافرة، وأصله الهودَج الذي تركبه، ثم أطلق على المرأة مجازاً، وقيل: سُمِّيَت المرأة بذلك لكونها يُظعن بها، أي يُرحل بها، فهي فعيلة بمعنى مفعولة. [فتح الباري لابن حجر: 1/51].
وقد جوَّز بعض المعاصرين سفر المرأة من غير محرم حال وجود الرفقة المأمونة، ومنهم الشيخ عبد الرَّزاق عفيفي -رحمه الله-، فقد سئل: هل يجوز سفر المرأة بدون محرم بالطائرة؟ فأجاب: «لا يجوز سفر المرأة من غير محرم ولو في الطائرة إلاّ أنَّ بعض الفقهاء من المالكية والشافعية يقولون: الرفقة المأمونة تقوم مقام المحرم، وأنا أحيانًا أقول بهذا، ومعنى الرفقة المأمونة أنها تأمن من شرِّهم …» [فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي: 461].
وجوّز الشيخ محمد الحسن الدَّدو للمرأة السفر برفقة مأمونة فيما دون يوم وليلة، سواءً كان لطلب العلم أو لغيره، ما لم تجبر الجامعة الفتاة على الحرام من نزع الحجاب ونحو هذا كما تفعل جامعات فرنسا [انظر: فتوى الددو على اليوتيوب بعنوان: «ضوابط سفر المرأة لإكمال دراستها»].
وخلاصة القول: أنَّ سفر المرأة في الطَّائرة جائز؛ ما دام في أغلبه لا يستغرق يومًا وليلة؛ بل لا يستغرق إلا بضع ساعات في معظمه، وهي داخل المطار وداخل الطائرة آمنُ على نفسها وعرضها ومالها منها خارج المطار والطَّائرة؛ لما هو معلومٌ من اضطلاع فِرَق أمنيَّة كاملة بمهامّ التَّأمين، واشتداد إجراءات الوقاية داخل المطارات والطَّائرات، وهو أعلى بكثير ممَّا يؤَمّنه المحرَم للمرأة.
المسألة الثانية: مسألة الإقامة.
أولا:اختلاف العلماء في ضابط تقسيم الدار:
اختلف العلماء في تعريف دار الإسلام؛ بين من يرى أنَّها الدار التي تكون أحكام الإسلام ظاهرة فيها [بدائع الصنائع: 7/130]، وبين من يرى أنَّها الدَّار التي نزلها المسلمون، وجرت أحكام الإسلام عليها [أحكام أهل الذمة: 2/728].
وينبني على ذلك الخلاف في ضابط التقسيم:
– هل هو جريان الأحكام أم كثرة السُّكَّان؟
– وما هي الأحكام المقصودة بالإجراء: الأحكام السلطانية من حدود وأقضية، أم يُكتفى بالشّعائر؟
– وهل العبرة بجريان هذه الأحكام ولو مع احتلال الكفَّار؟
ولذلك يرى بعض المعاصرين كالشيخ عبد الله ابن بيَّه أنَّ: «دار الإسلام: هي كلُّ دولة أكثر سكَّانها من المسلمين وحكَّامها مسلمون، حتى ولو كانوا لا يطَبِّقون بعض الأحكام الشرعية؛ ودار غير المسلمين: هي كلُّ دولة أكثر سكَّانها غير مسلمين، وحكَّامها غير مسلمين» [صناعة الفتوى وفقه الأقليات: 391].
وإذا جمعنا بين الآراء المختلفة في ضابط تقسيم الدار؛ نجد أنَّ أساسه أمران:
– طبيعة العلاقة بين دولة المسلمين والدول غير المسلمة.
– طبيعة إقامة المسلم في تلك الدول، ومدى تمكُّنه من حقوقه الدِّينية والمدنية.
ثانيا:اختلاف الفقهاء قديما في حكم الإقامة في دار الكفر على قولين:
القول الأول:الحُرمة، وهو مذهب المالكية وابن حزم متمسِّكين بعموم الحديث، وأنَّ المسلم يعرِّض نفسه ونسله للهوان والفتنة، [انظر: المقدمات الممهدات: 2/153، المحلى: 5/419].
القول الثاني: الجواز، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، حيث جوَّزوا الإقامة لمن قدر على إظهار دينه وأمِنَ على نفسه.
قال الشافعي: «ودلّت سنة رسول الله على أنّ فرض الهجرة على من أطاقها إنّما هو على من فُتِنَ عن دينه بالبلد الذي يُسْلِم بها؛ لأنّ رسول الله أذِن لقوم بمكّة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، منهم: العبّاس بن عبد المطّلب، وغيره، إذ لم يخافوا الفتنة، وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم: إنْ هاجرتم فلكم ما للمهاجرين، وإنْ أقمتم فأنتم كأعراب. وليس يخيّرهم إلاّ فيما يحلّ لهم» [الأم: 4/169].
وقال ابن قدامة ساردًا الأقوال في حكم الإقامة في دار الكفر حسب أحوال المكلَّف: «فالنّاس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفّار، فهذا تجب عليه الهجرة …
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها، إمّا لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف؛ من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه …
والثالث: من تُستحبُّ له ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكَّن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحبّ له، ليتمكّن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلّص من تكثير الكفّار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم. ولا تجب عليه؛ لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة» [المغني: 9/295].
وقال ابن حجر: «ولأبي داود: «أنا بريء من كلّ مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين» [أبو داود: 2945]، والنّهي محمولٌ على من لم يأمن على دينه» [فتح الباري لابن حجر: 6/39].
واستدلّوا على ذلك بأدلة كثيرة؛ منها:
– بقاء العبّاس بن عبد المطّلب بمكة بعد إسلامه.
– قصة الصحابي نعيم النحَّام العدوي عندما أسلم، طلب منه قومه البقاء معهم؛ لأنّه كان ينفق على أرامل بني عديّ، ويكفل يتاماهم، وأقرَّه النبيُّ على ذلك. [الاستيعاب لابن عبد البر: 4/1507؛ أسد الغابة لابن الأثير: 4/570].
– بقاء النجاشي بين قومه بعد إسلامه، وفي موته قال النبيُّ : «مات اليومَ رجُلٌ صالحٌ، فقومُوا فصَلُّوا على أخيكم أَصْحَمَةَ» [البخاري: 3877؛ ومسلم: 952].
– هجرة المسلمين إلى أرض النجاشي وإقامتهم بها.
– قصَّة فُدَيْك: فقد روى البيهقي في السنن الكبرى بسنده قال: «جاء فُدَيْك إلى رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أن من لم يهاجر هلك. فقال رسول الله: يا فُدَيْك أقم الصّلاة، وآت الزكاة، واهْجُر السّوء، واسْكُن من أرض قومك حيث شئت. قال: وأظن أنه قال: تكُنْ مهاجرًا» [السنن الكبرى للبيهقي: 17773؛ صحيح ابن حبان: 4861].
أنَّ المدار على إظهار الدِّين وأمن الفتنة فيه، وصيانة النّفس والعِرْض والمال؛ فحيثما تحقَّق ذلك لم يجب على المسلم الهجرة.
ثالثا:الدار المركّبة في رأي بعض العلماء:
ذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ من الدُّور ما هو مركَّب، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في بلد ماردين؛ حين سُئِل هل هو بلد حرب أو بلد سلم؟ فأجاب: «وأمّا كونها دار حرب أو سِلْم؛ فهي مركَّبة فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السِّلْم التي تجري عليها أحكام الإسلام؛ لكون جندها مسلمين؛ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفّار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقُّه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقُّه» [مجموع الفتاوى: 28/240].
ويتأيَّد هذا المذهب بما ذكره الفقهاء أنَّ دار الكفر ليست قسمًا واحدًا، فمنها دار الحرب، ومنها دار العهد والصّلح والموادعة والسِّلم.
وإذا ثبت ما تقرَّر آنفا؛ فالواقع المعاصر اليوم يقضي بأمور، منها:
– أنّ العلاقات الدولية قائمة على المعاهدات السِّلمية في معظمها.
– أنَّ البلاد غير المسلمة تستوطنها جاليات إسلامية كبيرة، تعدُّ بالملايين.
– أنَّ هذه الجاليات متجمِّعة في أحياء ومناطق، ولها ممثِّلون في مراكز إسلامية وجمعيات ونوادي مختلفة، بل نواب في المجالس الشَّعبية، ومصالحها الدِّينية والدُّنيوية منتظمة وفقًا لذلك.
– أنّ هذه الجاليات ممكَّنة في الأغلب من إقامة شعائرها، وتربطها بالدولة الحاكمة حقوق وواجبات سلمية.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ الإقامة في هذه البلاد هي أقرب ما تكون إلى مفهوم (الدَّار المركَّبة)، فيجوز الإقامة فيها ما دام المسلمون متمكِّنين من إقامة الشَّعائر، آمنين على الدِّين والنَّفس والعرض.
وعلى هذا الأساس فالطالبة المرفوقة بمثيلاتها من الطالبات، والسَّاكنة بحيٍّ جامعيٍّ أو إقامة يكثر فيها المسلمون، ومساجدهم، ومراكزهم، وجمعياتهم التي تمثِّلهم؛ تجوز لها الإقامة من حيث المناط العام، ويبقى تحقيق المناط الخاص في كل طالبة بعينها كما يأتي ذكره.
المناط الخاص:
أمّا المناط الخاصّ؛ فهو النظر إلى حالة كلّ معنيَّة بالمسألة على حدتها، من الجهات السالف ذكرها:
– أمن الفتنة على الدِّين في نفس المرأة المعنِيَّة من جهة ما يغلب عليها من رقَّة الدِّين أو صلابته.
– حاجتها وحاجة المجتمع لدراستها في الخارج، وأنَّ الدِّراسة المحلِّية لا تُغني غناءها.
– النظر في نوع التخصُّص، ومدى إباحته في حقِّ المرأة.
– توفر الرفقة المأمونة في سفرها وإقامتها.
– ظروف إقامتها في البلاد المهاجر إليها، من حيث التمكُّن من إقامة شعائر الدِّين، ومن حيث الأمن على الدّين والنفس والعرض.
وغير ذلك من المسالك الدَّقيقة، فيفتَى بحسب ذلك في كلِّ حالةٍ على حدة، وهذا معلوم من قاعدة إضافةِ الأحكام، وتغيُّرها بتغيُّر الأشخاص والأحوال.