تابعونا:

الاستشارة رقم -14-: حكم التمائم، وحكم الطلاق ثلاثا في قول واحد، والطلاق في الحمل (الجزء الثاني)

 صدرت بتاريخ: الجمعة 25 ربيع الآخر 1442ه

مجال الاستشارة: الفقه [الأحوال الشخصية]

الجزء الثاني: (حكم الطلاق ثلاثا، والطلاق في الحمل)

جوابًا على السؤال الآتي:


طلقت زوجتي بسبب اكتشافي بالصدفة لحجاب (تميمة) في الوسادة، وعند مواجهتها به اعترفت بأنه لعلاج ألم في رأسها، وأنها ذهبت رفقة والديها إلى أحد الشيوخ الذين يمارسون هذه الطقوس. عندما أخذت هذا الحجاب إلى أحد الرقاة المشهود لهم بالاستقامة، قال لي: إنه ليس لعلاج الرأس، بل لأشياء أخرى مثل: المحبة (هذا الحجاب مذكور فيه أنا ووالدتي)، وعندما واجهتها بحقيقة الكتاب، حلفت اليمين وأنكرت بأنه لها، وأنه تم تبديله، وأنها لا تعرف عنه شيئا، والكثير من الحجج الواهية المنافية لما رأته عيني، ولمسته بيدي، حيث زاد غضبي فطلقتها قائلا: (راكي طالق .. طالق .. طالق)، علما أنها حامل في الشهر 8، هل يمكن إرجاعها أم لا؟ مع العلم أنني عند تلفظي بالطلاق لا أستطيع الجزم بأني قصدت التوكيد أو التطليق بالثلاث، الرجاء التوضيح وشكرا.

خلاصة الاستشارة (الجزء الثاني):

التلفظ بالطلاق ثلاثا، سواء قال: أنت طالق ثلاثا، أو قال أنت طالق طالق طالق، بعطف أو بغير عطف، هو طلاق بدعيٌّ محرّم، وفاعله قد أتى معصية، وجب عليه التوبة منها، وألا يعود لفعلها.
وأمّا ما يقع به الطلاق بلفظ الثلاث، فالمختار لدى الهيئة أنه يقع واحدة رجعية مهما كانت صيغة التثليث، ما دام التثليث قد وقع في عدة واحدة، لا في عِدَد متفرقة، وهذا القول وإن كان خلاف ما ذهب إليه الجمهور؛ فهو أصل القضاء النبوي، وعليه جرى الإفتاء والعمل الأول في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه، وهو قولٌ قويٌّ ترجّحه الأدلة، وقد أفتى به عشرات العلماء القدامى والمعاصرين، وهيئات ومجامع فقهية عديدة.
وأمّا أنّ الطلاق وقع على المرأة وهي حامل، فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحمل ليس مانعا من وقوع الطلاق، فطلاق الحامل يقع بلا خلاف، وليس طلاقا بدعيا عند عامة الفقهاء.
كما ننصح كلّ متزوّج ومقبل عليه، أن يتعلّم أحكام الزواج والطلاق كما يتعلّم أحكام الطهارة والصلاة والصّوم، وألفاظ الطلاق لا يلعب بها، لأنه إذا تلفظ بها على مرات متفرقة على العِدَد، وقعت الفُرقة البائنة بينونة كبرى، وحصلت الندامة التي لا تفيد.

أولا: حكم المسألة وأدلتها.

الفرع الأول: حكم التلفظ بالطلاق ثلاثا.

الطلاق ثلاثا في قول واحد، سواء ثلّث بلفظ واحد كقوله: «أنت طالق ثلاثا»، أو بألفاظ مكرّرة كقوله: «أنت طالق طالق طالق»، بعطف أو بدون عطف؛ هو طلاقٌ بدعيٌّ محرّم في قول الجمهور من الفقهاء، وصاحبه آثم، عليه التوبة والاستغفار من فعله، قال الباجي: (فأمّا العدد: فإنّه لا يحلّ أن يوقع أكثر من طلقة واحدة، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلّق بغير السنّة) [المنتقى].

ودليل حُرمته:

1/ أنّ الشّرع قد حدّد صفة الطلاق التي يجب الالتزام بها، وهي الطلقة الواحدة في العدّة الواحدة، قال تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ﴾ [البقرة: 229]. قال الباجي: (ولا يخلو أن يكون أمراً بصفة الطلاق، والأمر يقتضي الوجوب، أو يكون إخباراً عن صفة الطلاق الشّرعي. ومن أصحابنا من قال: إنّ الألِف واللام تكون للحصر، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشّرعي على غير هذا الوجه) [المنتقى].
وقال الزمخشري: (التطليق الشّرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يُرد بالمرتين التثنية، ولكن التكرير، كقوله: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)، أي: كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التــثاني التي يُراد بها التكرير، كقولهم: لبّيك وسعديك، وحنانيك، وهذاذيك، ودواليك) [الكشّاف].
2/ ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانا، ثم قال: ﴿أيُلْعَب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم﴾ [السنن الكبرى: 5564]. قال ابن كثير: إسناده جيد [إرشاد الفقيه]، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواته موثقون. وقال ابن القيم: وإسناده على شرط مسلم [زاد المعاد].
3/ أخرج سعيد بن منصور، والطحاوي في شرح معاني الآثار، عن أنس: (أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أُتي برجل طلّق امرأته ثلاثًا، أوجع ظهره). قال ابن حجر: سنده صحيح [فتح الباري].
4/ لأنّ الله جعل الطلاق ثلاثا من باب الفسحة والتيسير، فجاء هذا المطلّق ليردّ هذا التيسير بأقبح ردّ وأوقحه، وكأنه يقول لربه تعالى إن كنت شرعت هذا التشريع، فأنا أناقضه بجمعها جميعا.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهنّ لعبا في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: “فكانت الأولى من موسى نسيانا، والثانية شرطا، والثالثة عمدا”، فلذلك قال له الخضر في الثالث: هذا فراق بيني وبينك) [التحرير والتنوير].

الفرع الثاني: ماذا يقع بالطلاق ثلاثا؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال أهمها:

قول الجمهور: أنّ الطلاق ثلاثا يقع ثلاثا، أي بائنًا بينونةً كبرى، فلا تحلّ المطلّقة لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره، نكاح غير محلّل، ثم يطلّقها أو يتوفّى عنها. على تفصيل عندهم في صيغ تثليث الطلاق، فقالوا في بعضها: هي ثلاثٌ لا محالة، وفي بعضها هي واحدة لكون العدد فيها للتأكيد، وفي بعضها يُرجع إلى نية المطلّق، مع اختلاف بينهم في بعض تلك الصيغ. وهذا القول [إجمالا] هو المعتمد في المذاهب الأربعة.
قول بعض الفقهاء: الطلاق في العدّة الواحدة لا يحتمل الوقوع إلاّ مرّة واحدة، سواء قال: أنت طالق ثلاثا، أو قال: أنت طالق، طالق، طالق، بعطف أو بدون عطف، وسواء أطلّق في مجلس واحد أم مجالس متعدّدة ما دامت العدة واحدة.
وإيقاع طلاق الثلاث واحدة هو قول لابن عبّاس في رواية صحّت عنه سيأتي ذكرها، وقد رفعه إلى القضاء النبوي، وإلى ما جرت به الفتوى والعمل في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، كما يأتي ذكره في الأدلة، فهو على ذلك قول اتفاقي للصحابة رضي الله عنهم قبل أن يُعدَل عنه إلى فتوى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمقتضى السياسة الشرعية، لا بمقتضى أصل الحكم.
وهو قول عكرمة، وطاووس، من التابعين.
وقول سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار، وجابر بن زيد، وإسحاق بن راهويه إذا كانت المطلّقة ثلاثاً بكراً. [المصنف لابن أبي شيبة، والإشراف لابن المنذر، واختلاف العلماء للمروزي، والمغني لابن قدامة].
وهو قول أئمة آل البيت؛ الهادي، والقاسم، والباقر، والناصر، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي. [انظر: البحر، للإمام يحيى].
وفي تابعي التابعين: هو قول محمد بن إسحاق، وخلاس بن عمرو، والحارث العكلي، وداود بن علي وأكثر أصحابه. [انظر: مجموع الفتاوى، إعلام الموقعين، عون المعبود، الدرر البهية والروضة الندية].
وقال به محمد بن مقاتل من أصحاب أبي حنيفة [انظر: المعلم للمازري]، وعدد من علماء المالكية بالأندلس، منهم: ابن مغيث: أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الصدفي الطليطلي المالكي (ت429هـ)، كبير طليطلة وفقيهها، كان حافظًا بصيرًا بالفتيا والأحكام، فهِمًا، نظّاراً، فصيحًا، أديباً، تفقّه بابن زهير وابن أرفع رأسه، وابن بدر، وابن الفخّار، وله كتاب «المقنع في علم الشروط» مطبوع. [انظر: ترتيب المدارك].
قال ابن مغيث: (وبه قال من شيوخ قرطبة: ابن زنباع شيخ وقتنا هذا، ومحمّد بن بقي بن مخلد، ومحمّد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة من فقهاء قرطبة سواهم) [المقنع في علم الشروط].
ومال إليه أبو الوليد ابن رشد في (بداية المجتهد) فقال: (وكأنّ الجمهور غلّبوا حكم التغليظ في الطّلاق سدًّا للذّريعة، ولكن تبطل بذلك الرّخصة الشّرعية، والرّفق المقصود في ذلك، أعني في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ [الطلاق: 1].
وقال به محمّد بن القاسم بن هبة الله، من علماء الشافعية. قال عنه ابن كثير: (قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة) [البداية والنهاية].
وقال به ابن تيمية، وحكاه عن جدّه مجد الدّين، وابن القيم. ولهما الفضل الأكبر في إظهاره وتقويته [مجموع الفتاوى، إعلام الموقعين].
وقال ابن عبد الهادي: (وقوّاه جدّنا جمال الدّين الإمام، وقد صنّف فيه مصنّفات) [سير الحاثّ].
وقال الرازي في تفسيره: (وهذا القول هو الأقيس).
أمّا في علماء القرن الحاضر والذي سبقه؛ فعشراتٌ من أهل الفتوى قالوا بهذا القول، ناهيك بالهيئات والمجامع الإفتائية، نذكر منهم: الصّنعاني، والشوكاني، ومحمد نذير حسين الدهلوي، وصدّيق حسن خان، والعظيم آبادي، والقاسمي، ومحمّد رشيد رضا، وشيخ الأزهر عبد المجيد سليم الحنفي، وأحمد شاكر، وأحمد الغماري، ومحمود شلتوت، وعبد الرحمن المعلّمي، والطاهر بن عاشور، وأبو زهرة، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله خياط، وشيخ الأزهر جاد الحقّ علي جاد الحق، وعبد الله بن زيد آل محمود، ومصطفى الزرقا، وعبد العزيز بن باز، ومحمّد بن صالح العثيمين، ومحمّد بن جبير، ومحمّد شارف الجزائري، وراشد بن خنين، ويوسف القرضاوي، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، ومحمد الحسن ولد الددو، وغيرهم.
وهذا القول هو المختار لدى الهيئة بغالبية الأعضاء.
الأدلة على القول المختار:
1/ من القرآن:
قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ ﴾ [البقرة: 229-230].
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: (وقد أمر الله بهذا الحكم [أي بتّ الطلاق وبينونته البينونة الكبرى] مُرتَّباً على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدّمتاه، فوجب امتثاله، وعُلِمت حكمته، فلا شكّ في أن يُقتصَر به على مورده، ولا يتعدّى حكمه ذلك إلى كلّ طلاق عبّر فيه المطلّق بلفظ الثلاث تغليظًا، أو تأكيدًا، أو كذبًا؛ لأنّ ذلك ليس طلاقا بعد طلاقين، ولا تتحقّق فيه حكمة التأديب على سوء الصّنيع، وما المتلفّظ بالثلاث في طلاقه الأوّل إلاّ كغير المتلفّظ بها، في كون طلقته الأولى لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنّه عُدّ في الحمقى أو الكذّابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه) [التحرير والتنوير].
2/ من السنة:
أ- حديث ابن عبّاس رضي الله عنه:
*أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبّاس قال: (كان الطّلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ طلاق الثلاث واحدة)، فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ﴿إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم﴾. فأمضاه عليهم. [مسلم: 1472]
*وأخرجه أيضا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أنّ أبا الصهباء قال لابن عبّاس رضي الله عنه: أتعلم إنّما كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم. [مسلم: 1472]
*وأخرجه من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، أنّ أبا الصهباء قال لابن عبّاس رضي الله عنه: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. [مسلم: 1472]
قال الباجي: (وعندي أنّ الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد رواه عنه الأئمة معمر وابن جريج وغيرهما، وابن طاوس إمام) [المنتقى].
قال المعلّمي: (رجال هذه الأسانيد أئمة أثبات) [الحكم المشروع في الطلاق المجموع].
وكون الحديث من مرويات الإمام مسلم؛ يغني عن التفتيش عن صحّته، لما تقرّر لدى عامّة أهل الشأن من تلقّي صحيح مسلم بالقبول، حتى قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: (حصل لمسلم في كتابه حظٌّ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أنّ بعض النّاس كان يفضّله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختصّ به من جمع الطرق، وجودة السّياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي، من غير تقطيع، ولا رواية بمعنى).
وقال النووي في تهذيب الأسماء: (وأجمعت الأمة على صحّة هذين الكتابين [أي: البخاري ومسلم]، ووجوب العمل بأحاديثهما).
وكلام سائر أئمة الحديث في كتاب مسلم معلوم مشهور، لا نطيل بتقصّيه.
وجه الاستدلال من الحديث:
أنّ الطلاق ثلاثا بلفظ واحد؛ كان يقع واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، وهذا صريح في رواية أبي الصهباء: (أتعلم إنّما كانت الثلاث تُجعل واحدةً)، ثم رأى عمر رضي الله عنه أنّ النّاس استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة معاقبتَهم بإمضائه عليهم؛ ليكون ذلك رادعًا لهم.
وهذا تصرّفٌ بالسّياسة الشّرعية، وقد عُهد على أمير المؤمنين من ذلك نظائر عديدة، فإنّه افترع باب الاجتهاد على مصراعين عظيمين، اقتضاه ما أسرع إلى أحوال المسلمين من تبدّلات في البيئة الاجتماعية والسياسية، تجاوزت الأوضاع المحدودة، والنماذج المحصورة في البيئة النبوية والصّدر الأول، واقتضاه عبقريته التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: توقيف حدّ السرقة عام الرمادة، وعدم قسمة سواد العراق، وضرب الدية على أهل الديوان، وتوقيف سهم المؤلفة قلوبهم، ومنع الزواج بالكتابيات … فما يُقال في سائر اجتهاداته الجارية على هذا المهيع؛ يقال في إيقاع طلاق الثلاث واحدة، أنه ليس نسخًا، ولا ردًّا لنصوص القرآن والسنّة، وهذا مقتضى المنهج بلا شك.
وأمّا تأوّل الحديث بأنّ الطلاق كان لا يصدر عن النّاس إلاّ واحدة، لا أنه كان يصدر ثلاثا فيقع واحدة، فيرده [أي هذا التأويل] قول عمر: (فلو أمضيناه عليهم)، فإنّ الإمضاء لا يكون إلاّ لشيء لــم يكن ماضيا، فما الذي لم يكن ماضيا؟ الطلاق واحدة لا يصادف عدم الإمضاء؛ لأنه يمضي بكلّ حال، إنما يصادفه بالضرورة الطلاق ثلاثا، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمضاه؛ لم يكن لقول عمر: ( فلو أمضيناه عليهم ) معنًى، وإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أمضاه، وأمضاه عمر، حصل الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة زمن أبي بكر رضي الله عنه.
كما يردّه اللفظ الصريح للرواية: (كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإذا صحّت هذه الرواية عن ابن عباس، وكان معناها ما ذهبنا إليه، فإنّ ما ثبت عن ابن عبّاس م من الفتوى بخلافها؛ فيه المبحث الأصولي المعروف: هل العبرة برواية الراوي أم بعمله بخلافها؟ ومذهب أكثر المالكية والجمهور أنّ العبرة بالرواية، لا بعمله [انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي، والتوضيح لحلولو]، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (أمّا مخالفة ابن عبّاس لما رواه؛ فلا يوهن الرواية كما تقرّر في الأصول، ونحن نأخذ بروايته، وليس علينا أن نأخذ برأيه) [التحرير والتنوير].
وقد أخذ المالكية والجمهور برواية الراوي المعارضة لعمله في:
– تسبيع غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب، رواه أبو هريرة، وعمل بخلافه إذ أفتى بالغسل ثلاثا.
– وفي اشتراط الولي في صحة النكاح، روته عائشة وعملت بخلافه، إذ زوجت بنت أخيها حفصة -على تفسير-.
– وفي اشتراط الحولين في الرضاع المحرّم، روته عائشة، وعملت بخلافه في رضاع الكبير.
– وفي بيع الأمة ليس طلاقا، رواه ابن عباس من حديث بريرة، وكان يجعله طلاقا.
– وغير ذلك من المسائل.
والأشبه بفتوى ابن عبّاس م المخالفة لروايته أنّه دخل في سياسة عمر رضي الله عنه وقضائه، فإنّ ما يقضي به الإمام يرفع الخلاف، ولا تسوغ مخالفته فيه.
ويؤكّد ذلك ما صحّ عن ابن عبّاس من فتواه بإيقاع الثلاث واحدة، مع الفتوى الثانية بإيقاعها ثلاثا، قال أبو داود: وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، إذا قال: «أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة». قال ابن القيم: (وهذا الإسناد على شرط البخاري) [إغاثة اللهفان]، وروى عبد الرزاق عن طاوس قال: (والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة) [المصنف].
فتكون هذه الفتوى موافقة للأمر الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون الأخرى موافقة لسياسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ب- حديث ركانة رضي الله عنه:
روى الإمام أحمد: حدّثنا سعد بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، حدّثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس، قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلّب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلّقتها؟)، قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: (في مجلس واحد؟)، قال: نعم، قال: (فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) [أحمد: 2387].
أمّا وجه الاستدلال بهذه الرواية؛ فهي نصٌّ في الباب لا يحتمل التأويل.
إنّما يبقى النظر في الموازنة بينها وبين غيرها من روايات حديث ركانة، وذلك أنّ حديث ركانة يخلص إلى أربعة أسانيد لا خامس لها، وقد استقصيناها وتتبعناها سندًا سندًا، وراويًا راويًا، وما قال أهل الحديث في كلّ ذلك، في بحث يطول عن هذا المقام، فتمخض ذلك عن الخلاصة الآتية:
الأسانيد الأربعة هي:
1-الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده.
2-عبيد الله بن علي بن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة.
3-ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع -مولى النبي صلى الله علية وسلم، عن عكرمة مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس.
4-محمّد بن إسحاق، حدّثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس.
أمّا الأول والثالث منها: ففيه ضعف الرواة ضعفا صريحا، لا خلاف فيه.
وأمّا الثاني: فرواية مستورين، لا تُــقبل إلاّ على التسامح، وإحسان الظنّ، كما أنها محلّ تأويل من جهة الدلالة.
وأمّا الرابع: فرواية موثّـــقين مصدّقين، على نقدٍ مقيّد في بعضهم، أو خلاف لا ينفي صحّة الاحتجاج، لا سيما مع المتابعات والشواهد.
فترجّح حديث ركانة من طريق محمّد بن إسحاق حدّثنا داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس، على غيره من الطرق.
كيف لا وقد صححوا بهذا الإسناد:
حديث محمد بن إسحاق، قال: حدّثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: (ردّ النّبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الرّبيع، بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحا) [أبو داود، والترمذي، وأحمد، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم].
قال الترمذي: (هذا حديث ليس بإسناده بأس)، وقال سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون: (حديث ابن عباس [أي: هذا] أجود إسناداً، والعمل على حديث عمرو بن شعيب). وقال الدارقطني: (والصواب حديث ابن عبّاس).
وصحّحوا حديث محمد بن إسحاق، قال: حدّثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: (ما كانت صلاة الخوف إلاّ كصلاة أحراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم، إلاّ أنها كانت عقبا، قامت طائفة وهم جميع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجدت معه طائفة، ثم قام وسجد الذين كانوا قياما لأنفسهم، ثم قام وقاموا معه جميعا). قال ابن حجر: (إسناده حسن).
وإذا انضمّ إلى ترجيح هذا الطريق من طرق حديث ركانة؛ حديث ابن عباس عند مسلم، الذي صُدّر به الاستدلال، فلا يضارعه شيء من حجج السنة.
روح التشريع وفقه الواقع:
نعلم يقينًا أنّ الشريعة سلكت مسالك التضييق والتحجير على الأسباب التي تقطع آصرة النكاح، وتشوّفت إلى تأبيد هذه الآصرة بكلّ سبيل ممكنة، تلافياً للمفاسد الواسعة التي يفضي إليها قطع أواصر النكاح، لا سيما في زماننا هذا الذي انمحت فيه صورة المجتمع البسيط؛ مجتمع القرية أو البادية أو المدينة الصغيرة، حيث المطلّقة من النّساء تُنكَح مرارًا لا معرّة عليها في ذلك، والأولاد يرتمون في حضن مجتمع تسودُه القيم، وتلتقفهم حواضن التربية والتعليم، من الزوايا والمساجد والمدارس، والأقارب من أعمام وأخوال لا يقصّرون في الرعاية، لأن مفهوم الأسرة والعائلة الكبيرة قائم، وأعرافها محكّمة، والرجل يجد سبيلا إلى زواج ثان بيسر وسهولة، لبساطة مؤنة الزواج وكلفته.
صورةٌ تغيّرت تغيّراً عميقًا جدًّا، يقضي بتغلّب المفاسد ورجحانها على الأحوال التي تنقطع فيها أواصر النكاح، فالمطلّقة لا تكاد تُنكح مطلقًا، وكيف تنكح والعوانس من العازبات لا يجدن سبيلا إلى النكاح، فالرجل نفسه لا يجد سبيلا إلى النكاح لعسر مؤنته، ومفهوم الأسرة الكبيرة خفّ كثيرا، وهو في تلاش ملحوظ، والأولاد يحتضنهم مجتمع فيه من الانحراف عن القيم الدينية والأخلاقية والتربوية ما هو مخوفٌ جدًّا، وغير ذلك من المفاسد التي نقطع أنّ الشريعة جاءت بتلافيها في مسألة هي من موارد الاجتهاد.

الفرع الثالث: الطلاق في الحمل.

أمّا كون الطلاق قد وقع والمرأة حامل، فلا خلاف بين أهل العلم أنّ ذلك ليس بمؤثر في وقوع الطلاق، وليس طلاقا بدعيًّا عند عامّة الفقهاء أيضًا، وفي حديث ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿مُرْه فليراجعها، ثم ليطلّقها طاهراً، أو حاملاً﴾ [مسلم: 1471].

 أعضاء الهيئة الموقعون على الاستشارة

الشيخ لخضر الزاوي.
أد. عبد الحق حميش // أد. عبد القادر جدي // أد. عبد القادر داودي // أ. سمير كيجاور // د. محمد هندو // أد. مختار حمحامي // أد. يونس صوالحي // أد. ماحي قندوز.
حصة هذا:

ترك تعليقاتكم

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مؤسسة الأصالة 2020 - كل الحقوق محفوظة

hind video sex newindiantube.mobi bombay sex mms indian sexy kissing video onlyindianporn.me xxx dehati video desi nude porn freejavporn.mobi massageroomsex video hd sexy video bigindiansex.mobi choda chodi scene haha to ikemen x boku to zurineta hentai.name kefla hentia flats in kolkata sobazo.com yamaha fz25 tamil sex vdeos com xxxindianporn.pro old beeg interview sex video onlyindianporn.tv kama katai skymovies-in rajwap.pro pakistani outdoor sex kamukt redwap.me indian big pussy xpooja.com indiansexmms.info school x video xnxx' redwap2.com bf fucking gf xxxinda redwap2.com tamil sex stroy new group sex vedios bukaporn.net sexy film video mallu reshma blue film desixxxtube.org fraud babas in india