حين ينتقص مقلّدٌ عالماً مجدّدًا؛ فذاك لقصوره، أو حبّ ظهوره، فهو لا يفرّق بين أساليب ومناهج الأصوليين في كتابة علم أصول الفقه، وتشرُّبها عند المتأخرين المنطقَ والجدلَ، وبين كتابة تجديدية تُحَرّر مباحث العلم ومسائله من الدّخيل، وممّا لا يفيد عملاً، بلسان عربي مبين، يتجاوز المكرّر المحفوظ، ليفسح لعلم أصول الفقه أن ينسجم مع أسرار التكليف، في نظام تشريعي يعتصم في موافقاته بحقائق الوحي الشريف، حتّى لا يضلّ المكلّفون عن عنوان التعريف بأحكامه السمحة وسعتها.
إنّ كتاب «الموافقات» للشاطبي المجدّد، وكان قد سمّاه أوّلا «عنوان التعريف بأسرار التكاليف»، هو أشهر كتب أبي إسحاق وأكثرها ذيوعًا، لم يقصد بتأليفه الاقتصار على علم أصول الفقه كما يتبادر لمن لم يحقّق، وإنّما أصول الفقه بعض ما نظر فيه، وأمّا سائر مباحثه المحرّرة ممّا يفيض بها الكتاب؛ فهي تدخل تحت حكمة التشريع ومقاصده، وأسرار التكليف ومراصده.
قال عنه الشيخ عبد الله دراز في مقدّمته على الكتاب: «لم تقف به الهمّة في التجديد والعمارة لهذا الفنّ عند حدّ تأصيل القواعد، وتأسيس الكلّيات المتضمّنة لمقاصد الشّارع في وضع الشّريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصّل باستقرائها إلى استخراج دُرَر غَوَال، لها أوثق صلة بروح الشريعة».
ولقد وُفّق الشاطبي في موافقاته توفيقًا ظاهراً متقبّلاً لدى جمهور طبقة النّظار، حتّى قال فيه الإمام الحفيد ابن مرزوق التلمساني: «كتاب الموافقات المذكور؛ مِن أقبل الكتب». يعني: من أكثر كتب علم أصول الفقه قبولاً عند المشتغلين بهذا العلم. وقال عنه أحمد بابا التنبكتي: «وكتاب الموافقات في أصول الفقه؛ كتابٌ جليل القدر، لا نظير له، يدلّ على إمامته، وبُعْد شَأْوه في العلوم، سيّما علم الأصول». وانظر إلى قوله: «لا نظير له»، وقوله: «سيّما علم الأصول»؛ يظهرْ لك أنّ كلام المنتقِص مبناه التقليد والدعوى والخفة.
ولله درّ الشاطبي حين يقول: «لا يُسمّى العالم بعِلْمٍ ما؛ عالماً بذلك العلم على الإطلاق؛ حتّى تتوفّر فيه أربعة شروط: أحدها: أن يكون قد أحاط علماً بأصول ذلك العلم على الكمال. والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم. والثالث: أن يكون عارفا بما يلزم عنه. والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم».
ففيمن تتحقّق هذه الشروط وتظهر؟ ومن أحقّ بوصف «الأصولي»: عالمنا المجدّد أم المنتقص المقلّد؟
بل إنّ من درس مؤلّفات الشاطبي، ووقف بعين البحث والتحقيق على كلامه؛ عرف قدره. قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقّه: «إنّه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقّق العلاّمة الصّالح أبو إسحاق». وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام، وإنّما يعرف الفضل لأهله أهلُه.
وأمّا عصريُّنا المنتقِص للشّاطبي فلسانه أطول من قلمه، ودعواه أعرض من علمه وحاله، وقد خبرته سنين. ويكفي النّابهَ البصير معرفة ما ذكره العلماء الثقات الأثبات في ترجمة الشاطبي من ألقاب علمية، إذا لم تسعفه الحال لدرس كتبه، ووزن درجة تمكُّن هذا الإمام بنفسه، دون الرجوع إلى كلام غيره.
فالتنبكتي في «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» يقول عن الشاطبي: «الإمام العلاّمة المحقّق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا مفسّرًا فقيهًا، محدّثًا لغويًا بيانيًا نظّارًا، ثبتًا ورعًا صالحًا زاهدًا سنيًّا، إمامًا مطلقًا، بحّاثًا مدقّقًا جدليًا، بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحقّقين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفنّنين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون فقهًا وأصولًا وتفسيرًا وحديثًا وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق. له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محرّرة محقّقة، على قدم راسخ من الصّلاح والعفّة والتحرّي والورع، حريصًا على اتّباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبُّت تام، منحرف عن كلّ ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل، وله تآليف جليلة مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة … اجتهد وبرع وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في التحقيق، وتكلّم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم، كالقبّاب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والوليّ الكبير أبي عبد اللَّه بن عبّاد، وجرى له معهم أبحاث ومراجعات؛ أجلت عن ظهوره فيها، وقوّة عارضته وإمامته، منها: مسألة مراعاة الخلاف في المذهب؛ له فيها بحثٌ عظيم مع الإمامين القبّاب وابن عرفة، وله أبحاثٌ جليلةٌ في التصوّف وغيره، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يُذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر».
لقد عرض الشاطبي أيام الطّلب والتحصيل على شيخه الإمام أبي سعيد بن لبّ (مفتي غرناطة، وخطيب الجامع الأعظم، والمدرّس بالمدرسة النّصرية) مختصر ابن الحاجب في الأصول في مجلس واحد، وأجاز له أن يروي عنه كما في برنامج تلميذه المجاري، كما قرأ الإمام الشاطبي على أبي علي منصور بن عبد الله الزواوي [له مشاركة في كثير من العلوم العقلية والنقلية، ونظر في الأصول والمنطق والكلام] مختصر منتهي السول والأمل في علمي الأصول والجدل، للإمام أبي عمرو بن الحاجب، من أوّل مبادئ اللغة إلى آخره بلفظه، إلاّ يسيرًا منه سمعه بقراءة غيره، وكلّ ذلك قراءة تفقّه ونظر، وأجازه إجازة عامّة بشرطها.
فهل مَن شأنُه هكذا، ومن أجازه ابن لُبّ والزواويُّ كتاباً إليه المنتهى في علم الأصول؛ يُنزع عنه لقب «الأصولي»، ويُنعت بما هو نقيصةٌ، حتّى يُشكّك في أهليته؟! وهل غاب عن تلميذه أبي بكر محمّد بن محمد بن عاصم الغرناطي؛ الفقيه الأصولي المحدّث، صاحب «تحفة الحكّام»؛ أنّ شيخه الشاطبي ليس أصوليًّا حتى يختصر «الموافقات» له، ويجعله من مصادره في أرجوزته في الأصول؟! وهذا أبو جعفر أحمد القصار الأندلسي الغرناطي؛ تتلمذ على الإمام الشاطبي، وقد قال إنّه كان يطالعه ببعض المسائل حين تصنيفه الموافقات، ويباحثه فيها، وبعد ذلك يضعها في الكتاب على عادة الفضلاء ذوي الإنصاف. فهل يستقيم الخوض في مراتب العلماء بالاستخفاف والنقيصة والتشكيك في أهلية من زكّاه العلماء الواقفون على حقيقته من أهل عصره؟! ومن الأدرى بالشاطبي: من عاصروه أم من تأخّر عنه بقرون؟!
لقد كان مقتضى العلم والتثبّت الحكمُ على الكتاب لا على صاحبه، فإنّ الكتب وحدها لا تقوم حجّة على رسوخ قدم صاحبها في العلم ولا على ضعفه، وكم من مسوّدة لم يبيِّضها منشؤُها وقد ظنّ واجدوها تمامها. ومن أراد النصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم ببيانه مراتب العلماء؛ فعليه أن يلزم الأدب مع من جعلهم الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- ورثةً له، فينتقي الكلمات ممّا تحصل به الفائدة، ويحفظ للعلم وأهله القدر والمقام.
شارك المنشور على
Share this content