مفاهيم يجب أن تُصحّح في التعامل مع النصارى

You are currently viewing مفاهيم يجب أن تُصحّح في التعامل مع النصارى

مفاهيم يجب أن تُصحّح في التعامل مع النصارى

لقد أكرمني الله بالرحلة في طلب العلم إلى بلاد الشام، بعد تخرجي من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية سنة 1988، زادها الله شموخا ورفعة وعطاء.
ومن الأمور التي شدّت انتباهي وأنا في سوريا: فكرة التقارب بين الأديان التي تزعّمها مُفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو -رحمه الله-، الذي اختِير ليكون رئيسًا للأديان، وكان أهمّ أقطابه الذين توكّأ عليهم في التنظير للفكرة تلميذُه المقرّب الدكتور محمّد حبش المجازُ في القرآن، والمتخصّص في التفسير والخطيب المفوّه !
وأذكر أنّه كان يُحاضر يومًا، وأتى بكلام مستفيض في التقارب، وبالغ في الثناء على النّصارى، مُستدلًّا بقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) [المائدة82]، وتوقّف دون إتمام الآية! فرفعت يدي وقلت له: يا أستاذ، أتمِم الآية! وأتممتُها: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). فَبُهت وانصرف !
وقد سِيقت الآية لبيان الفرق بين اليهود والنصارى، وهذا من عدل القرآن وإنصافه للمخالف، وعلّة التفاوت: أنّ اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا بدليل قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ …)، ومَن كان حريصًا على الدنيا طرح دِينه في طلب الدنيا، وأقدم على كلّ محظور ومنكر من أجل دنياه.
وأمّا النّصارى: فإنّهم في أكثر الأمر مُعرضون عن الدنيا، مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة، ومَن كان ذلك شأنه فإنّه لا يحسد النّاس ولا يؤذيهم، ويكون أقربَ لقبول الحقّ، فهذا هو الفرق بين الفريقين، وهو المراد بقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
والضميرُ في قوله (سَمعوا) يرجع إلى القسّيسين والرهبان الذين آمنوا منهم، (وما أُنزِل) هو القرآن على الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه [انظر: تفسير الرازي 6/71-72]
فالواجب شرعًا وعقلاً استثمارُ هذه الصِّفة في دعوتهم إلى الحقّ الذي شرّفنا الله به، (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنَّا مُسلِمُونَ) [آل عمران 64].
لا أن نُدَلِّس عليهم ونغشّهم بالمبالغة في مدحهم بما ليس فيهم، وقد سَمعتُ بأذني مِن بعض دعاة التقارب في سوريا أنه قال للنصارى: أنتم مؤمنون ابقَوا على ما أنتم عليه! وسمعتُ أيضا من بعضهم: أنّ هؤلاء لا هم كفّارٌ ولا هم مسلمون، أي: منزلة بين المنزلتين، وكأنهم من أصحاب الأعراف، وصريح القرآن يقول: (لقَد كفَرَ الذِين قالوا إنَّ اللَه ثالثُ ثلاثَةٍ). (فماذا بعدَ الحَقِّ إلا الضَّلالُ)؟!
وقد حاول دعاةُ التقارب في سوريا استقطابَ بعض الطلبة الجزائريين بشتى الوسائل والإغراءات ليكونوا سفراءَهم في الجزائر في الترويج لهذا الفكر المنحرف، غير أنهم خابَ ظنُّهم ولم يفلحوا في ذلك، ولله الحمد.
وفي سنة تِسع وتسعين أو ألفين في أَوّل عُهدة الرئيس السابق، أوفَد أحدَ مُستشاريه إلى سوريا للاستفادة من تجاربهم في التعايش مع الأديان! وقد تساءلت يومئذ عن الباعث، وعمّا يُخطط لمستقبل الجزائر، فالجزائر تختلف عن المشرق بِوَحدة الدِّين، ووحدة المذهب الفقهي، ولله الحمد، فهل يُراد بذلك تمزيقُ وحدتها بإيجاد طوائف أخرى غريبة عن جسدها؟!
ولا أظنّ أنه مِن باب الصُّدف أن تختار وزارةُ الأوقاف السورية مُجمّعَ أبي النور ليتكوّن فيه أئمتنا الموفدون، وهو المعروف بالدعوة إلى التقارب، في الوقت الذي يوجد فيه مَن هو أقوى وأعمق علما منه بكثير، ويبدو أنّ الوزير السابق الدكتور غلام الله تنبّه للأمر، فاستشارنا في ذلك في مناسبة جمعتنا به فأبدينا له النُّصح.
وبعد عشرين سَنة، يُقَنِّن الدستورُ الجديدُ في بعض موادِّه ما يَخدُم التقاربَ بين الأديان بمفهومه السلبي الذي يقتضي التنازل عن بعض المسلَّمات في ديننا!
وبعد عِشرين سنة يخرج ما كان مخفيا إلى العلن عبر الفضاء الأزرق، وبعض القنوات من قبل بعض المثقفين ورجال الإعلام، ليطعنوا في الدّين وقِيمه، ويشككوا في ثوابته وقطعياته، ويتقربوا من النصارى بالترحم على موتاهم لغرض من الدنيا قليل! وإنّه والله لأمر عجيب أن يطلبوا لهم الرحمة من إله لا يؤمنون به، لأنهم يؤمنون بالثلاثة لا بالإله الواحد!
فحُسن المعاملة مع المسالِم مطلوبةٌ شرعا، سواء كان نصرانيا أو غير نصرني، لقوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنّما يَنهاكُمُ اللُه عن الذِينَ يُقاتِلُوكم في الدِّينِ وأَخرجُوكُم مِن دِيارِكُم وظاهَرُوا على إِخراجِكُم أن تَوَلَّوهُم) [الممتحنة: 8].
وقال الإمام ابن باديس :
مَن كان يبغي وُدَّنا .. فله الكرامةُ والرَّحب
أو كان يبغي ذُلّنا .. فله المهانةُ والعَطَب
والاقترابُ مِن النصارى ومِن جميع المِلل لتبليغهم دعوةَ الحقّ، أو التعاون معهم على ما يُسعِد البشريةَ في أمور دنياها مطلوبٌ. وأمّا التقربُ منهم بما يجعلنا نتنازل عن بعض دِيننا، ونُــقِرّهم على ما هم عليه من الانحراف؛ فمرفوضٌ ومنهيٌّ عنه شرعًا بنصوص كثيرة، منها قوله تعالى: (واحْذَرهُم أن يَّفتِنوكَ عن بَعضِ ما أنزَلَ اللهُ إليْكَ) [المائدة: 51]، (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إذاً لأَذقناك ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المَماتِ ثُمّ لا تَجدُ لك عَلينا نَصِيراً) [الإسراء: 74].
وحريةُ المعتقد بعد التبليغ مكفولةٌ في شريعتنا وفق ضوابط، قال تعالى: (فذَكِّر إنَّما أَنْتَ مُذكِّرٌ لَسْتَ عَلَيهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)، وقال أيضا: (لا إِكراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ).
وأما زعزعةُ عقيدة المسلمين في دينهم وقـــيَمِهم، وتمزيق وحدتهم، فمرفوضٌ، وخطٌّ أحمر لا يجوز تجاوزه إطلاقا.
وبناء على ما سبق ذكره:
1. فالواجب تكاتف جهود المسؤولين والعلماء لأجل الحفاظ على عقيدتنا، وثوابت ديننا، وتحصين أبنائنا وبناتنا من الفكر الدخيل الذي يمزّق وحدتنا.
2. الواجب علينا أخذ كلّ فنّ عن أهله الصادقين: فأمور الصحة تؤخذ من الأطباء الأمناء، ومسائل الإعلام تؤخذ عن رجال الإعلام الصادقين، وأمور الدّين تؤخذ عن علماء الشريعة المتقين، وكذلك سائر الفنون.
3. على كلّ من أخطأ في شيء ممّا سبق ذكره أن يتوب إلى الله، ويتبرّأ من خطئه، وأن يبتعد عن تبرير خطئه بليّ أعناق النصوص وتحميلها ما لا تحتمله، «كلّ بني آدمَ خطّاءٌ وخيرُ الخطّائين التوّابون» كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.