إنّ تناول مشكلاتنا وقضايانا اليوم بمعزل عن المعطيات العالمية؛ لهو ضرب من الوهم، وبخاصّة أنّ المسلمين اليوم لا يصنعون مصيرهم منفردين، بل في صلتهم بالعالم وفي صلتهم بالمرحلة الحضارية التي تعيشها الإنسانية اليوم، والتي جعلت العالم يعيش كأنّه قرية واحدة، وكذلك لأنّ قيادة العالم اليوم ليست بأيديهم بل بأيدي غيرهم، وبخاصّة الحضارة الغربية التي هيمنت على العالم، وأشعّت عليه بمنجزاتها وبمشاكلها منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي على الأقل.
ولعلّ هذا ما جعل مالك بن نبي يقول، وهو يتحدّث عن صلة الغرب بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي: «ولا شكّ أنّ هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتّع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحلّلها وأن نتفهّمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامّة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية» (بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص113).
وهو ما أشار له الدكتور طه جابر العلواني في تقديمه لكتاب: «إشكالية التحيّز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد» الذي قام بتحريره الدكتور عبد الوهاب المسيري ضمن سلسلة كتب المنهجية الإسلامية، حيث يؤكّد ما ذكره بن نبي قبله بنصف قرن، بأنّه في الميدان الفكري؛ فإنّ الحضارة الغربية قد فرضت نفسها منذ القرن التاسع عشر، وحتى اليوم على العالم كلّه، وقد تبنّت معظم الشعوب نموذج أوروبا إمّا كلّيًا أو معدَّلاً، فسادت مفاهيم الغرب ونظرياته المختلفة، في العلم والمعرفة والمناهج العلمية والتفسيرات العلمية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرها، وهيمنت على سائر الرؤى الأخرى بحيث صارت وكأنها قانون العصر الذي لا محيد عنه (العلواني، من مقدمة كتاب التحيز، 1996).
فثقافة الغرب التي حصلت على هذا الإشعاع، وبما تتضمّنه من عناصر إيجابية وأخرى سلبية، فإنّ التمدّد الغربي في العالم جعل مشكلاته الحضارية بمختلف أبعادها مشكلات عالمية. وعلينا أن نقوم بتقييمها ونقدها وصياغة حلول تمكن المسلم من أن يحقّق ذاته ويتجاوز الفوضى الغربية، ويستفيد من منجزاتها.
ولعلّنا في سياق مقالات موضوعنا المتعلّق بصلة الدّين بالعلم؛ نركّز على الجهود الإسلامية في تناول هذه الصّلة في ظلّ هذه الفوضى المعرفية إن صحّ التعبير. ذلك أنّه منذ تراجع الإبداع العلمي لدى المسلمين في عصورهم المتأخّرة، وبخاصّة مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وظهور العلوم الغربية موضوعًا ومنهجًا، وانتشارها في العالم بتوسّع الحضارة الغربية كما أسلفنا القول، وسيطرة الرؤية الغربية للعلم على العالم وعلى العلوم بدرجات متفاوتة في حجم الانتشار والتأثير؛ سعى كثيرٌ من المفكّرين والعلماء المسلمين لتناول موضوع صلة الإسلام بالعلوم الحديثة.
ويرى سيّد حسين نصر في تقديمه لكتاب «التوحيد والعلم» للمفكّر الماليزي عثمان بكر أنّ الكثير منهم اعتبر -بكلّ بساطة- أنّ العلوم الحديثة استمرار للعلوم الإسلامية، وأنّها بضاعتنا رُدّت إلينا. ولذا ترى أنّ بعضهم اندرج في سياق توظيف مخرجات العلوم الحديثة في التفسير وفي الحديث عن الإعجاز العلمي وغيره، لإثبات وبيان كيف سبق القرآن المكتشفات العلمية الحديثة أو أنّه تنبّأ بها، ولهذا فالعلوم الحديثة هي في الحقيقة علوم «إسلامية» بمعناها العميق.
ولكن مثله هذه النقاشات- كما يقول سيّد حسين نصر- تصدّر لها شخصيات محدودة الاطّلاع والعلم بما تتضمّنه هذه العلوم الغربية الحديثة من أسس وخلفيات فلسفية، ومحدودية اطلاع على تاريخ العلوم الإسلامية وعلى الفلسفة الإسلامية للعلم، ولم يُظهروا -بشكل عام- الصرامة الفكرية اللازمة للمهمة المطروحة أمامهم.
وإنّ جهودهم هذه، مهما كانت درجة نضجها ونوعيتها، فإنّها أدّت إلى هيمنة الوضعية العلموية «Positivistic Scienticism» التي نرى حضورها اليوم في دوائر كثيرة للفكر والثقافة والعلم والفلسفة في العالم الإسلامي، والتي أدّت إلى قيام بعض المسلمين أنفسهم بإنكار وجود علم إسلامي أو نظرية علم إسلامية لها مناهجها الخاصة ولها رؤيتها الكونية. وأمثال هؤلاء الذين ينفون وجود علم إسلامي يرون أنّ «العلم هو العلم»، وفي السياق نفسه ليس هناك علم مسيحي، وبالتالي ليسه هناك علم إسلامي أيضا.
وكما يؤكّد سيّد حسين نصر أيضاً؛ فإنه قبل خمسين سنة حينما بدأت جهود إثبات حقيقة وجود نظرية علم إسلامية ووجود علم إسلامي، وأهمية ذلك لعالمنا الإسلامي المعاصر، كانت المعارضة الأشدّ تأتي من العالم الإسلامي ذاته وليس العالم الغربي فقط، ولكن مع تطوّر الدراسات النقدية، وتوسّع البحث في تاريخ العلم في الحضارة الإسلامية، وتطوّر البحث في فلسفة العلوم، والرؤى الكونية الثاوية خلفها، من قبل علماء مسلمين وغير مسلمين، ممّن لهم اطّلاع واسع بالعلوم الغربية الحديثة وفلسفتها، واطّلاع واسع أيضا على العلوم الإسلامية وتاريخها وفلسفتها، بدأ تراجع المواقف الناكرة لوجود علوم إسلامية وأهميتها في التلاقي المهمّ بين الإسلام والعلوم الحديثة.
بل وتعمّق البحث أكثر، وبدأت برامج جامعية للدرجة الأولى، وللدراسات العليا في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها تنشأ وتفتح في كثير من البلدان الإسلامية، مثل: ماليزيا وإيران وباكستان، لتنتشر بعدها هذه البرامج، وتتعمّق الدراسة في فلسفة العلم في الإسلام، والبحث في تاريخ نشأة العلوم في الحضارة الإسلامية، وفي الأسس المؤسّسة للعلوم في الحضارة الإسلامية، وفي تاريخ هذه العلوم، ممّا يُعطي مبرّرات للحديث عن نظرية العلم الإسلامية، أو العلم الإسلامي؛ والذي نقصد به أنّ المسلم منطلقًا من الإسلام ومصادره (القرآن والسنة) ومن الرؤية الإسلامية للكون والحياة أسّس علومًا جوهرها التوحيد، استطاعت أن تحدث نقلة حضارية فريدة في التاريخ، وبإمكان المسلم استعادة فعّالية هذه الرؤية الكونية، واستئناف القول العلمي على أساس الإسلام مرّة أخرى بما يتجاوز فوضى الحضارة الغربية المعاصرة.
شارك المنشور على
Share this content